لم تعد أساليب الديكور الداخلي كافية لتخفيف ضغوط الحياة اليوميّة في المدن الكبيرة، رغم ما تقدّمه تيّاراتها من حلول لتوفير الراحة والرفاهية داخل المنزل، ممّا دفع بالكثير من المصمِّمين لإيجاد وسائل جديدة، تساعد على التعايش مع تلك الضغوط من طريق ابتكار مساحات خضراء في الشرفات وعلى السطوح، تشكل امتداداً جميلاً للداخل، وحاجة ضروريّة له.
تبدو الأفكار التي يطرحها مهندس الحدائق والمناظر الطبيعية زافييه دو شيراك، الأكثر فاعلية وقدرة على تحقيق أحلام الكثير من سكان المدن الذين يبحثون دائماً عن حلول تحسِّن شروط حياتهم وتلبِّي طموحاتهم للعيش وسط أجواء ممتعة، مريحة ومحاطة بالنباتات الطبيعية.
فهذا المهندس الذي برز اسمه في السنوات العشر الأخيرة كأفضل مصمم لحدائق الشرفات والسطوح في المدينة، عرف دائماً كيف يلامس طموح محبي الطبيعة ويحوِّل أحلام الكثيرين منهم إلى حقيقة من خلال تصوراته البديعة للأماكن وصياغاته الفريدة المشبعة بحس شاعري رقيق ورشاقة غير موصوفة تجعل من كل مشروع من مشاريعه عملاً إبداعياً مثيراً للإعجاب والدهشة، من بينها هذه الحديقة الجميلة الطابع التي تم تنفيذها فوق سطح أحد الأبنية الباريسية القديمة.
وقد أراد أصحابها أن تكون نسخة طبق الأصل من الحدائق الريفيّة في الجنوب الفرنسي، مما يجعلها ملاذاً يهربون إليه لقضاء أجمل الأوقات بعيداً من ضجيج الشارع وضغوط الحياة اليومية.
انطلق زافييه دو شيراك في تصوُّره للمكان من فكرة ابتكار جوّ حقيقي لحديقة برية تُذكّر بالريف، من خلال خيارات متنوعة من النباتات والأشجار الصغيرة والأزهار البرية التي استطاع من خلال تشكيلها وتنسيقها البسيط إنتاج مناخ بديع يسكنه الهدوء والنعومة.
وقد عمد في بداية تأهيله للمساحة، إلى ابتكار حاجز نباتي عند الجدران الفاصلة عن الجوار بأنواع من النباتات والأشجار الصغيرة المتنوعة، التي ساهمت في عزل المكان عمّا يحيط به من مبانٍ وشقق بغية توليد أجواء مريحة وحميمة.
ولإضفاء إحساس باتساع المكان وتتابع مساحاته، لبّس زافييه دو شيراك أرضه الإسمنتية بألواح من الخشب على امتداد مساحة 140 متراً مربعاً ثبَّت في وسطها وعند جوانبها أحواضاً متعرجة الخطوط منخفضة بجوانب ملبَّسة برقائق القصدير زرع فيها نباتات مختلفة، وذلك في قلب تربة مجبولة بمواد خاصة مرطبة خفيفة الوزن تساهم في تغذيتها ونموها.
وقد تطلق تلك الأحواض، أنواعاً مدهشة من النباتات ذات الأوراق الكثيفة والأغصان المتدلية، إضافة الى الورود الصغيرة العطرة التي اشتهرت بها حدائق الجدّات في الماضي، بتناغم مع أزهار القرطنسية والفيرونيكا وبعض الشجيرات الصغيرة وكتل نباتات «البَقّسُ» المصاغة على شكل كريات كبيرة، لتدعم كثافة الغطاء النباتي وتزيد من رونقه.
أما بالنسبة الى الشجيرات الصغيرة التي زينت الأحواض وسط الحديقة وعند جانبيها، فقد تم زرعها في حاويات عالية ومستقلة ودمجها داخل تلك الكتل النباتية الموزعة في المكان، مما يساهم في تظهير جمالها فتوحي بكثافة نباتية إضافية في التنسيق.
تتوزع هذه الحديقة جلسات مريحة للتمدد والراحة، إضافة إلى ركن لتناول الطعام في الهواء الطلق، عماده طاولة ومقاعد من الخشب، تعلوها تعريشة من الخشب أيضاً، صممت خصيصاً في هذا المكان لتنمو فوقها النباتات المتسلِّقة وتحمي الجالسين فيها من أشعة الشمس خلال ساعات النهار الحارة. ويتواصل هذا الركن من الحديقة مع مطبخ خارجي صغير ودرج خاص يؤدي إلى داخل الشقة.
أمّا النموذج الثاني من حدائق سطوح المدينة التي ابتكرها هذا المُصمِّم فوق سطح في منطقة فاخرة من باريس، فقد طُبعت أجواؤه بنفحة عصرية ترجمتها خيارات من النبات وقطع الأثاث الأنيقة التي زينت بها أركان الحديقة المتنوعة في ارتفاعها والتي تجمع بين أركانها معابر وأدراج خشبية تتناسق في طبيعتها مع الأرضيات الخشبية الباهتة اللون التي تزيّن مساحات مختلفة من هذه الحديقة الممتدة على مساحة 200 متر مربع والتي تطل على «برج إيفل» الشهير وأجمل مناظر العاصمة الفرنسية...
تتشكل في هذه الحديقة جلسات بسيطة ناعمة للراحة وتناول الطعام وسط أشجار متنوعة الأشكال، بعضها مثمر وبعضها الآخر للزينة تتناغم معه كتل نباتية كثيفة وتنوعات من الأزهار الجميلة التي تحيط بالمكان من كل جانب وتساهم من خلال مظاهرها ونبرات ألوانها المتأرجحة بين الأخضر والأبيض، الأزرق، الزهري، الأصفر والبنفسجي في إضفاء أجواء حالمة عطرة في مكان يشعر الجالس فيه بأنه في حديقة أرضية. حديقة تنسيه تماماً أنه على سطح بناء إسمنتيّ يطل من فوق أمتار عديدة على شوارع المدينة.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر