من يتابع ما يقوم به الناشط الفني اللبناني قاسم اسطنبولي، يُدرك مدى شغفه بالسينما خصوصاً وحبه للفن عموماً. فمن لا شيء تقريباً، وبلا أية مقومات مادية، استطاع الفنان اللبناني الشاب تغيير المعادلة في الجنوب اللبناني من خلال أعماله، إذ معه لم تعد هذه المنطقة مرتبطة فقط بالمقاومة والقضايا السياسية. بات لها دور مهم على الصعيد الفني عبر مهرجانات سينمائية ومسرحية وعروض أفلام دائمة، ومواكبة لأبرز التطورات على الساحة اللبنانية.
الدورة الثانية من مهرجان صور السينمائي ستبصر النور في كانون الأول (ديسمبر) المقبل، وتلقى المهرجان حتى الآن نحو 900 فيلم من 84 دولة، ويجري العمل على اختيار الأفضل، فيما نظم منذ مدة أسبوع أفلام تحية للممثل نور الشريف، عبر عرض مجموعة من أفلامه ومنها «ناجي العلي»، «الظالم والمظلوم»، «حبيبي دائماً» و «المطارد»، علماً أن الدخول كان مجانياً، كما غالبية النشاطات. وسبق لمسرح اسطنبولي تنظيم أسابيع مماثلة تحية لمسيرة فنانين منهم عمر الشريف وفاتن الحمامة وصباح ومحمود سعيد وغسان مطر وغيرهم.
أولى مغامرات هذا الشاب الطموح، بدأت مع ترميم سينما الحمراء في مدينة صور، التي كانت تعتبر واحدة من أهم صالات السينما وأقدمها في لبنان، إذ شهدت على العصر الذهبي للسينما والمسرح اللبناني، وعلى مسرحها كان حاضراً شوشو ودريد لحام ونصري شمس الدين ومحمود درويش ومرسيل خليفة والشيخ امام ومظفر النواب وفهد بلان وسميرة توفيق وأحمد فؤاد نجم وغيرهم.
كما كانت سينما الحمراء مقصداً للعديد من الاحتفالات السياسية الحاشدة، لا سيما اليسارية منها، التي كانت تشهدها صور أواسط سبعينات القرن العشرين وبداية ثمانيناته، ونُظِم بعضها في حضور قادة مثل كمال جنبلاط وياسر عرفات وجورج حبش. شيدت السينما عام 1952 وهندستها إيطالية تذكرك بصالة فيلم «سينما براديسو»، بيد أنها أقفلت بسبب الحرب، وتعرضت للقصف أيام الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982.
أعاد اسطنبولي ترميم الصالة وافتتاحها السنة الماضية، بمبادرة ذاتية، من خلال قرض من أحد المصارف وبجهود فريق مسرحه وشباب المدينة والمخيمات الفلسطينية في الجنوب، إذ كانت مليئة بالنفايات، واستغرق العمل نحو ستة شهور (افتتحت في حزيران- يونيو 2014).
وبعد نجاح التجربة الأولى، يخوض اسطنبولي مغامرة جنوبية ثانية، وهي ترميم سينما «ستارز» في مدينة النبطية التي أقفلت قاعتها عام 1990، وسيفتتحها السنة المقبلة، مع بدء التحضيرات لمهرجان سينمائي أيضاً.
وتعمد هذه المبادرة الذاتية الثانية لإعادة الحركة الثقافية والسينمائية إلى قلب المدينة وأهلها من خلال ترميم وإعادة افتتاح «سينما ستارز» التي تعتبر آخر قاعة سينمائية لا تزال قائمة في منطقة النبطية، إذ دُمرت خلال حرب 2006 قاعتان كانتا توقفتا عن العمل منذ مدة طويلة هما «ريفولي» و «الكابيتول» ليحل مكانهما مركز تجاري وآخر مصرفي.
وتعود علاقة النبطية مع السينما إلى ثلاثينات القرن الماضي وأربعيناته، مع فرق التمثيل وجوقات العتابا والميجانا، التي كانت تعرض في الهواء الطلق، إلى أن أنشأ حسيب جابر عام 1943 السينما الأولى في النبطية باسم «روكسي» وقُدمت على منصتها مسرحيتا «الحجاج بن يوسف» و «أيام سفر برلك».
وبعد عام توقفت «روكسي» لتشيد مكانها سينما «أمبير» (1944) التي لم تعمر طويلاً، إذ أقفلت عام 1952، بعدها بادر علي حسين صباح عام 1957 إلى إنشاء دار سينما «كابيتول». ثم قامت في العام ذاته دار عرفت باسم «سينما أبو أمين» نسبة إلى كنية صاحبها، لم تعمل سوى أشهر قليلة، وكان المشاهدون يجلسون على الحصائر البورية. وفي العام 1960 أُنشئت سينما «ريفولي» التي احترقت عام 1979 بسبب الحرب. وظهرت في أواسط الثمانينات سينما «ستارز» آخر سينما في تاريخ النبطية لتقفل عام 1990. ولقد تميزت تلك المرحلة الذهبية بعرض أفلام فاتن حمامة وسعاد حسني ومحمود ياسين ونجلاء فتحي وغيرهم، إضافة إلى الأفلام الغربية مثل «سبارتاكوس»، والأفلام الهندية مثل «ولدي» و «من أجل هكتارين من الأرض»، وأفلام الكاراتيه لبروس لي.
واليوم على رغم قلة الإمكانات، وغياب الدعم المادي والرسمي، نجحت الدورة الأولى من مهرجان صور السينمائي الدولي في استقطاب جمهور متعطش للأفلام، واستضافة فنانين ومخرجين لا يبحثون عن الرفاهية. فاسطنبولي كان يستضيف ضيوفه الأجانب والعرب في منزله البسيط، فيما توزع بعضهم على منازل الأصدقاء، وأمه كانت تهتم بالطعام وتحضر أطباقاً تقليدية نالت إعجاب الضيوف. لم تكن ثمة إمكانات مادية لاستئجار غرف فندقية أو تحضير ولائم ضخمة، فالضيوف هم عشاق حقيقيون للسينما كما يقول اسطنبولي.
ويوضح في حديث لـ «الحياة»: «هدفنا تعزيز الثقافة السينمائية، والتحفيز على الإبداع، والعمل على إفساح المجال للشباب للقاء وتبادل الخبرات، إضافة إلى الاحتفاء بالسينما اللبنانية والعربية والعالمية. علماً أن الدورة الأولى انطلقت بمشاركة 20 دولة و24 فيلماً. وبعد عرض فيلم عن إعادة تأهيل «سينما الحمرا»، ألقى الفنان المصري محمود قابيل كلمة الافتتاح وأشاد فيها بدور فريق «مسرح اسطنبولي» في الجنوب، بلا أي دعم من الجهات الرسمية والمعنية، معتبراً هذا العمل «تاريخياً ونضالياً وتأسيسياً يسجل لمدينة صور». وعن علاقته بالسينما يقول اسطنبولي: «هي نصفي الثاني بعد المسرح، شاهدت أول فيلم في حياتي في الصالة التي أعدت ترميمها وكان فيلم «ناجي العلي» من بطولة الراحل نور الشريف. كانت السينما ممتلئة بالجمهور وحملني أخي على كتفيه لأشاهد الفيلم. السينما عالم خاص فيه الصورة والإحساس والمتعة والعشق، وهي صناعة جميلة لها رونقها ومتعتها على كافة الصعد. هي ذاكرة المكان وحنين الماضي».
وحول ردة فعل الناس على النشاط السينمائي في الجنوب، يجيب: «الناس هنا متعطشون للفن والفرح. جمهورنا هو العائلة والناس البسطاء، وكل ما نقدمه مجاني. يأتي الناس إلى السينما بشوق، وينتظر الصغار وطلاب المدارس ليشاهدوا الأفلام. لا أنسى امرأة كانت ترضع ابنها في السينما لأنها كانت تشعر بالحب، وسيدة أخرى تشاهد الفيلم ومعها أكياس الخضار، وشاب كان ماراً من أمام السينما حاملاً منقل الفحم فوضعه قي الخارج ودخل إلى القاعة لمتابعة الفيلم».
ويضيف اسطنبولي: «يهدف المشروع في المدينة إلى بناء جيل جديد يحب السينما، إذ نعرض أفلاماً مهمة وبشكل مستمر في القاعة والمدارس والساحات العامة في المخيمات، إضافة إلى تدريب مسرحي وسينمائي وتصوير فوتوغرافي من خلال محترف تيرو للفنون».
ولكن من يدعم هذه النشاطات، وهل من دعم مادي؟ يقول الفنان الشاب: «حبنا للسينما هو الدعم لهذه النشاطات وعشق ضيوفنا، ووفاؤهم لهذا الفن ساهم في إنجاح نشاطاتنا. ضيوفنا من ممثلين ومخرجين وفنانين هم من أسسوا لهذه المهرجانات، فالوفاء للسينما وللمسرح لديهم أكبر من وفاء اللبناني الذي لا يتواجد خارج نطاق العاصمة. عندما أقفل مسرح بيروت تظاهر كثير من الفنانين ونزلوا إلى الشارع، وحين افتتحنا سينما الحمراء غابت فئة كبيرة منهم عن المشاركة في الحدث».
ويشير اسطنبولي أخيراً إلى أن القرض الشخصي الذي أخذه، ساهم في إعادة تأهيل السينما، في حين يعمد خلال المهرجانات إلى الشراكة مع وزارة الثقافة وبلدية صور وإدارة حصر التبغ والتنباك، علماً أن ضيوف المهرجان يأتون إلى لبنان على نفقتهم الخاصة. ولا يفوت اسطنبولي في ختام حديثه أن يعتب على «بنوك العار» في مدينة صور «التي لا تساهم في دعم الثقافة».
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر