الرباط - المغرب اليوم
نشر الملياردير والمناضل في صفوف فدرالية اليسار الموحد، كريم التازي، رسالة مفتوحة، موجهة إلى رئيس الحكومة السابق والأمين العام لحزب العدالة والتنمية السابق، عبد الإله بنكيران، عقب محادثة هاتفية بين الطرفين، انتهت بإقفال هذا الأخير للخط في وجه التازي وأوضح رجل الأعمال المعروف أن بنكيران اتصل به مباشرة بعد صدور حوار له مع يومية "المساء"، انتقد فيه الحصيلة الاقتصادية لحكومة "البيجيدي"، على مدى السنوات السبع التي قاد فيها الحزب الحكومة ، مبرزًا أن بنكيران عبر له عن غضبه واحتجاجه بسبب وجهة نظره المعبر عنها في الجريدة، قبل أن يقفل الخط في وجهه "دون استئذان أو سابق إنذار"، وفق تعبيره.
وفي ما يلي النص الكامل لرسالة كريم التازي:
رسالة إلى بنكيران صديقي المحترم
اخترت في هذه الرسالة أن أتقاسم معك ومع القراء نقاشًا لم تترك له الإحباطات المتراكمة وسوء الفهم فرصة للنضوج.
بعد نشر يومية “المساء” ملفها الخاص بتقييم الحصيلة الاقتصادية على مدى السنوات السبع التي قاد فيها حزب العدالة والتنمية الحكومة، والصادر يومي 7 و8 دجنبر، اتصلتَ بي هاتفيا لتبلغني غضبك واحتجاجك على وجهة نظري المعبر عنها في الجريدة.
سمح لي أن أخبر، وبشكل مختصر، من لم يتمكن من الاطلاع على الملف الصحافي أني عبرت عن فكرة مفادها أن عددا من الملاحظين والمختصين انتبهوا غداة انتخابات 2011 الى أن حزبكم لا يتوفر على كفاءات قادرة على تدبير الشأن الاقتصادي وهو ما يفسر، دون شك، إسناد الحقائب الوزارية الاقتصادية الرئيسية لأطر لا تنتمي لفريقكم.
بناء عليه فإن تحميل حزبكم لوحده مسؤولية السنوات السبع العجاف أمر لا يستقيم. لكن هل هذا معناه أن الحزب الإسلامي لا يتحمل جزءً مهما من مسؤولية أمام هذه الحصيلة المخيبة للآمال؟ بالطبع لا، فالحزب ضالع وله نصيبه الكبير من المسؤولية فيما آلت إليه الأمور.
قناعتي الثابتة، وأنا أتكلم هنا كفاعل اقتصادي ومستثمر، أن حزبكم لو تمسك بوعوده الانتخابية ومنها النهوض بالحكامة الرشيدة ومحاربة الرشوة واقتصاد الريع لَرَبح المغرب نقاطا مهمة في وثيرة النمو ولخُلقت عشرات الآلاف من مناصب الشغل ولوُضِعت لبنة أساسية في صرح الديمقراطية.
للأسف فضل حزبكم دفن رأسه في رمل التنفيذ ولم يرفع الرأس إلا للتحذير من تماسيح وعفاريت لا تُرى أو التلويح، في وجه المنتقدين، بعبارات من قبيل “نحن صمام أمان البلد وضمانة استقراره”.
وحاول أن يبرر تراجعه عن خوض معارك الإصلاح بشعار الإصلاح في ظل الاستقرار.
صديقي المحترم، انفجرتَ في وجهي غاضبا لكوني لم أسرد قانون اقتطاع أيام الإضراب من أجور الموظفين المضربين ضمن المنجزات التي تسلحتم فيها بالشجاعة السياسية، وأزبدتَ ثم أرعدتَ لأني لم أشر إلى مجهودكم في إصلاح صندوق المقاصة وأنظمة التقاعد.
لا أجد غضاضة في التعبير عن الأسف لأني أغفلت الموضوع، وأكدت لك استعدادي لتصحيح الأمر أمام الرأي العام. لكن وكما أخبرتك فهذه الإشارة لن تغير شيئا من حقيقة أن الخطوات التي أقدم عليها حزب العدالة والتنمية بقيت قاصرة على وضع البلاد على سكة الإصلاح.
لقد أخلفتم مواعيد ضيعت علينا مكاسب حركة 20 فبراير وخطاب 9 مارس والنقاط المضيئة في الدستور الجديد. جوابك لم يكن إلا اجترارا لسابقيه. كررت على مسامعي، من جديد، أنك برفضك الانخراط في حركة 20 فبراير وبقيادتك للحكومة بعد انتخابات 2011 قد جنبت المغرب الفوضى والدمار. كنت بصدد مناقشته والرد على طرحك هذا لكنك قررت أن تغلق هاتفك في وجهي دون استئذان أو سابق إنذار.
في البداية قرأت في تصرفك الغريب هذا انفعال رجل ترجل عن صهوة الفرس الحكومي بعد طول “تبوريد” في ظروف ماسَّة بكرامته وكبريائه إلا أني وجدت تفسيري ظالما. ففي سلوكك، أيضا، تعبير عن مرارة مشروعة عالقة في حلق رجل خدم وطنه بأمانة ويشعر أن صدقه قوبل بالجحود.
سي عبد الإله، انقطاع الخط الهاتفي لا يعني القطيعة ولا انقطاع النقاش والمحاججة، دعني أتمم علنا، بمناسبة هذا المقال، ما لم أتمكن من إتمامه هاتفيا لأني أومن أن النقاش العمومي في هذه الظرفية الحرجة من تاريخ بلادنا، بعيدا عن اللغو والقدح والتنابز، مفيد لفهم وتشخيص عِلَّتنا اليوم. الأسباب والأعراض وسبل العلاج.
دعنا نقولها صراحة، إن محاولة الفصل التام بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي ـ وهو ما وقع فيه بعض ممن حاولوا تقييم التجربة الحكومية لحزب العدالة والتنمية ـ لا يعتبر أمرا مفتعلا فقط، بل يتجاوز الافتعال إلى الخطورة.
إنه إحدى نقاط الضعف الرئيسية لـ “نموذجنا التنموي” الحالي الذي يتذرع بالأعطاب الاجتماعية والاقتصادية لتعطل الإصلاحات السياسية، وبالإكراهات السياسية لتبرير الفشل في الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
ليس قدَرا أن نُطِل على المستقبل من نافذة الاقتصاد وحدها فيتحول الهاجس الاقتصادي إلى هوس كما هو الشأن في الولايات المتحدة الأمريكية أو الصين، فنصنع مجتمعات استهلاكية لا هَمَّ لها سوى مراكمة الثروات والجري وراء الماديات.
لسنا مجبرين على تحويل الهاجس الاجتماعي إلى هوس كما حدث في كوبا أو فنزويلا مؤخرًا، التي سقطت في براثن الفقر، ما جعل الدولة أضعف من تحقيق غاياتها الاجتماعية.
وليس من المقبول أن يتحول الاستقرار الى هوس هو الآخر، كما هو الشأن بالنسبة للمغرب، فتتأجل كل الإصلاحات إلى أجل غير مسمى مما سمح للريع بالتجذر وتشكيل دولة داخل الدولة.
لكن الأخطر، سي بنكيران، هو ما اقترحتموه كبديل خَيَّر المغاربة بين الركود والجمود من جهة أو الفوضى والفتنة مقابلهما.
لا يا سيدي الفاضل، إن الجمود منذر بالويل وإن تمت رعايته من طرف حزب شعبي حائز على الشرعية الانتخابية ومسنود بلسان خطيب مفوه ممسك بمصباحه.
ولك في حراك الريف وجرادة والمقاطعة الشعبية لسلع استهلاكية خير دليل. إن هذا الذي حدث تعبير عن أكبر أزمة شهدها المغرب المستقل. ولا تظنَّنَ أسي بنكيران أن إزاحتك عن دفة التسيير الحكومي هي التي أشعلت نيران الغضب في قمم الريف وصحاري زاكورة ومناجم الفقر في الشرق، بل استمرار إخوانك على منهجك الموسوم بالتنازلات ووأد المبادرات وتأجيل الإصلاحات المُلِحَّة لتقويم أداء الدولة والنهوض بها هو السبب الأهم فيما حدث.
لقد كوفئ الحزب على طاعته وانقياده ونجى، بأعجوبة، مما سمي بالزلزال السياسي كما نجى المنتقدون فيكم، إلى الآن على الأقل، من كل الهزات الارتدادية. إن الذين ناضلوا ويناضلون من أجل دولة القانون والربط الفعلي بين المسؤولية والمحاسبة ضد الريع والرشوة ليسوا عدميين ولا ثوريين.
وإنه لمن المؤسف أن تساهم في هذا الخلط بين الإصلاح والفوضى وبين ساسة مسؤولين وباحثين عن الفتنة. إنهم فسيفساء مشكلة من مواطنين إصلاحيين شجعان وآخرين، ليسوا أقل شجاعة، لكنهم اختاروا الحذر.
السواد الأعظم من المغاربة الذين ألصقت بهم صورة التطرف غصبا لا يبحثون في الشارع عن ثورة ولا ينسجون في الظلام خيوط فتنة. لم ينتظر المغاربة أنهار الدم في الشام ولا عمود الدخان المتصاعد في ليبيا لكي يُعبِّروا عن تمسكهم باستقرار بلدهم وسلمية مطالبهم.
لقد كانوا ومازالوا دعاة للسلم والاستقرار الفعلي. إن الصرح القوي الذي سيجمع المواطنين المغاربة تحت سقف الكرامة لن يستقيم الا بهدم البناء العشوائي الذي سُدَّت فيه قنوات القانون واعتلى فيه الريع الأسطح وأُغلقت فيه نوافذ الحريات واحتلت فيه الرشوة جل الفضاءات وتمت فيه الاستعاضة عن تنمية الرأسمال البشري بأولوية تشييد البنيات الإسمنتية.
يهمني القول إن الحركة الإسلامية، وحزبكم واحد من ركائزها، مكوِّن هام ولا محيد عنه في المشهد الحزبي المغربي وأن لا مستقبل لنموذج تنموي يبتغي تهميشكم، في وقت يوضع فيه رأس واحد من أبرز قيادييكم تحت مقصلة المتابعة الجنائية وتشمع فيه بيوت أعضاء جماعة العدل والإحسان.
لكن الإنصاف والعقل يقتضيان أيضا الإقرار بمكانة القوى الأخرى، بتياراتها المحافظة والعلمانية، بتقدمييها وليبرالييها. هذا البلد الأفريقي الضارب بجذوره في قارته السمراء والمنفتح على أفقه الأوروبي، الذي اتخذ مبادرات تستحق التنويه اتجاه المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء، لا يعتبر فسيفساء إثنية وثقافية فقط، كما تردد الرواية الرسمية. إنه فسيفساء عرقية ودينية أيضا يبحث فيها العلمانيون وغير المسلمين واللادينيين عن مكان تحت الشمس الى جانب إخوتهم في المواطنة من أغلبية سنية مالكية. تحدي قبول الآخر مطروح بشكل كبير على الحركة الإسلامية، وأنت واحد من وجوهها البارزة،
أكثر مما هو مطروح على النظام، رغم سلطويته، الذي أظهر في بعض المناسبات تسامحا مع التعدد السياسي والثقافي والديني وإن على مضض. يرى عدد من أعضاء الحركة الإسلامية عن حق أن إرادة السلطة تقزيمهم ظالم وغير مبرر. لكنهم لا يعون أن رفض الحركة الإسلامية لحقوق المرأة وحقوق الأقليات الجنسية والدينية بدعوى فهمهم للنصوص الدينية يخلق لدى باقي التيارات المجتمعية تخوفا مشروعا من تغولهم وميلهم لفرض نموذج إقصائي على المجتمع بِرُمَّته! إن هذا الإنكار لحقوق المرأة والأقليات لا يُعتبر أمرا مرفوضا وحسب، بل يعطي شرعية للراغبين في استئصالكم،
أولئك الذين يقدمون أنفسهم، رغم كل أعطابهم، كسَدٍّ منيع أمام هيمنتكم وظلامية ما تقترحون. يطلب الناس إصلاحات أكثر وأفضل وأسرع، وهذا أمر طبيعي. غير أن حزبكم لا يكف عن الشكوى من غياب الحليف ومعاتبة الناس بدعوى أن انتقاداتهم تضعفكم.
المواطنون لا يقدمون شيكا على بياض ولا ينتظرون الى ما لا نهاية. لقد مرت 7 سنوات من إهدار الفرص والجمود القاتل وقد آن الأوان لمراجعة الالتزامات وتوضيح الاستراتيجيات وتقديم مفاتيح الإصلاح على المدى المتوسط.
لن يتقدم المغرب إلا بتقاطع الرؤى بين إصلاحيه المالكين لحس تاريخي والمستشعرين للمسؤولية الأخلاقية والمستقلين في قرارهم التنظيمي، على اختلاف مرجعياتهم ومواقعهم. فليتحمل كل منا مسؤوليته مُصلِحا كان أو خصما للإصلاح. قد نختلف، نتخاصم، نغضب من بعضنا ونتصالح. لا بأس. المهم أن نكون أذكياء وصادقين. بالصدق نبني ديمقراطيتنا المنشودة.