بقلم - حسن البصري
يمو ت المدرب فيذكره رؤساء الفرق بالخير كباقي الأموات. يرحل إلى دار البقاء فيسأل زملاؤه عن آخر شهاداته في التدريب، ويسأل حفار القبور عن الراعي الرسمي للجنازة، ويسأل هواة السير خلف الجثامين عن أفراد أسرته، ويستفسر وكيل أعمال فقيه جنائزي عن عنوان البيت وموعد التأبين ومتعهد حفلات المأتم.
المدرب كائن يموت ويحيا عشرات المرات، وينتهي به المطاف في مقهى يحتسي فيها قهوته السوداء، وهو يلعن تصنيفات «الكاف» وجحود اللاعبين، وجشع المسيرين ومكائد المدربين، وضعف ذاكرة الصحافيين.
في جنازة المدرب الوطني مصطفى مديح، حمل أقرب المقربين الجثمان بعدما أنهوا إجراءات الترخيص بالدفن، في بلد يجبرك على استخلاص شهادة الحياة والوفاة، وقد يطالبك يوما برسوم الموت قبل الآجال.
يمضي المشيعون بالنعش الملفوف في كفنه نحو القبر، في جنازة رياضية تصورها الكاميرات، ثم بعد هذا يذكر اسم مدرب، قطع مع الراحل البث منذ زمان، في التلفزيونات بصفته صديق الفقيد، يلقي باللوم على الوزير ورئيس الجامعة ورئيس الفريق وعميد المنتخب وحفار القبور، ثم ينصرف نحو موقع إلكتروني آخر.
هناك فرق بين الجنازات التي ترعاها الحكومات والجامعات والأندية، والجنازات غير المدعمة من طرف الدولة، التي تنشد فيها الجدات مواويل الرثاء التي تكشف للحاضرين خبايا شخصية الفقيد ومناقبه و«تقطر الشمع» على خصومه.
قيل إن البكاء وراء الميت خسارة، لكن السكوت أيضا تواطؤ مع القتلة. لذا يفضل الكثيرون المنزلة بين المنزلتين، فيظهرون الانفعالات الزائدة في المقبرة ويصرفون النظر عن ليلة التأبين.
في الطريق الفاصلة بين شارع غاندي ومقبرة الرحمة، لم يهتم المارة بالميت بقدر ما لفت نظرهم مشهد حافلة الرجاء البيضاوي التي كانت تسير خلف الجثمان، ولأن الجنازة أعقبت إقصاء الرجاء من نهائي كأس العرش، فقد استغل الوداديون المشهد للسخرية من الرجاويين وتصوير الحافلة وهي تقف في باب المقبرة، ولكم أن تتخيلوا التعليقات الساخرة التي رافقت الموقف.
وحين حل رئيس الوداد البيضاوي بالمقبرة سأله أشخاص يتعاطون الصحافة عن سر خسارة فريقه أمام الفريق البركاني، بينما تفادى حسبان الرجاء الأسئلة الملغومة وذكر حاملي الميكروفونات بحرمة المكان، أما المدربون الذين كان الفضل في ركوبهم صهوة التأطير للراحل، فقد ألهاهم التكاثر عن زيارة المقابر.
لا أعرف ما يمكن فعله في المسافات الفاصلة بين المسجد والمقبرة، غير تأمل سحنات الحاضرين، والسير إلى جانب مدربين تخلوا عن سخريتهم الدائمة من الموت، بينما شرع مدربو الجيل الجديد في تأريخ الحدث بـ«سيلفيات» وهم بالقرب من قبر الفقيد، وكتابة تدوينات ابتغاء نقرة «جيم» أو دعاء للراحل بالمغفرة والثواب، وعلى طول المسافة، تحدث كثيرون عن أسباب الرحيل وعن ضحايا السرطان، وطبعا لكل مشيع مع مصطفى حكاية، في نهاية الأمر كان الجميع يعزي الجميع، حتى بائع ماء الورد ادعى أنه لعب لفريق دربه مديح، أما الراسخون في الجنائز فاستفسروا عن البديل المنتظر للمرحوم.
انتهت مراسيم الدفن، وشرع المشيعون في السؤال عن نتائج المباريات التي أجريت مساء ذلك اليوم، وهم لا يميزون بين مقبرة واستوديو تحليلي. تفرق الجمع دون حضور حفل التأبين، فقد لف الخيام عزوف جماهيري غير مسبوق، وتبين أن واجب السير وراء الجنازة يغني عن التأبين، لذا كان المشهد أقرب إلى «الوي كلو».
من أجل الكرة مات عدد كبير من الأبرياء، منهم من لقي حتفه في مدرجات الملاعب، ومنهم من قدم روحه قربانا لفريق يعشقه، ومنهم من يعيش اليوم بإعاقة دائمة، فقط لأنه حول الكرة إلى عقيدة.
ودادية المدربين تحولت إلى ما يشبه ديوان المظالم، وأنشط قسم في مؤسسة محمد السادس للأبطال الرياضيين، هو قسم مشتريات الأدوية والأمصال، وشهادات التدريب وعقود المدربين لا تمنح حاملها والمحمولة إليه تباشير التغطية الصحية، فالكرة اليوم كمأكولات الباعة المتجولين، «إلا ما قتلت تسمن».