كنت أدقق النظر في أسماء المحطات على ملصق بداخل قطار الميترو، باللاتينية هذه المرة، حين انتبهت إلى أن روسيا، يجاوز الأربعين، يشير إلى يريد أن يدلني على الطريق الصحيح. كان وجهه حسنا ودودا كالباقين. يقف ويده اليمنى تحكم القبض على عارضة فضية معلقة، فيما زوجته، الشابة تجلس الصغير على ركبتيها. قال لي بإنجليزية أنيقة وهو يبتسم:"هل تريدان الذهاب إلى الملعب؟". لعله تبين ذلك من الاعتماد الذي كان على صدري. وقلت له:"نعم، هو كذلك". قال لي وهو يشير بأصبعه إلى المحطات:"نحن هنا بالذات. بعد محطتين سنكون في المكان المناسب بالنسبة إليكما".
أكد لي ما حدث، في تلك الأثناء، بأن هؤلاء القوم بخلق عجيب. لم يكن كل ما وقع من مبادرات للمساعدة مصادفة، أو خداعا. إنهم يبادرون إلى تقديم يد العون بتلقائية رائعة. ليس هذا فحسب، بل يصرون على المصاحبة حتى النهاية. يصرون على أن يطمئنوا للخير الذي فعلوه. ويشعرون بسرور واضح، يطربون له، حين تقضى حاجات الناس على أيديهم. حدث ذلك لمرات منذ أن جئنا إلى العاصمة موسكو، وها هو يحدث مجددا ونحن في بداية زيارتنا القصيرة جدا إلى سان بتيرسبورغ.
كنت أخمن في الأمر، تشغلني حركات صغيرة ندت عن سيدة شابة، في "سن السبعين"، تجلس على يمين زوجة الروسي الذي بادر إلى المساعدة. فهمت منها، وهي تتحدث إليه، لاحقا، بالروسية، بأنه أخطأ التوجيه. كانت كلماتها صارمة، فالمحطة التي دلني عليها لم تكن هي مقصدي. وبما أنه أدرك خطأه، فقد طلب الصفح في الحين. بدا كما لو أنه يريد البكاء. قال لي، ولمرات، مثل تلميذ يقف أمام أستاذه:"رجاء اعذرني، فقد أخطأت توجيهك. لا تنزل في هذه المحطة"، ووضع أصبعه على الاسم الخاطئ، وزاد:"بل هنا". ثم وضع الأصبع على الاسم الصحيح هذه المرة.
هل تعرفون ما فعلت السيدة العجوز؟ قالت له ولزوجته:"دعكما من المسألة، أنا سأتكفل بإيصالهما إلى الملعب". بدت بوجه حازم، وكأنها تقرر شيئا لا رجعة فيه. وماذا فعل الرجل؟ رفض ذلك بأدب. قال لها، وساعدته زوجته:"لا عليك، ما وقع خطأ بسيط، وسأصححه بالتكفل بإيصالهما إلى حيث يريدان". قالت العجوز بصرامة أكبر كما لو أنها تنهي النقاش:"أنا من سيفعل ذلك. لا تشغلان نفسيكما بذلك". حينها ابتسم الرجل، وبدا أنه استسلم بعد "صراع طويل" مع السيدة العجوز، في "حرب" كانت تدور قريبا مني وزميلي رزقو، الصحافي المصور لجريدة أخبار اليوم، وقضيتها المحورية من سيساعد الغريبين.
حين وصلنا محطتنا المقصودة نهضت العجوز من مجلسها، وقالت لنا بإنجليزية بديعة:"اتبعاني. سأذهب معكما حتى بوابة الملعب". ورغم أنني شكرتها شكرا جزيلا ونحن نخرج من المحطة، ونتبين، بسرعة، طريقنا؛ بما أنه كان طريق الجماهير الكثيرة التي ملأت القطار، فقد حركت رأسها تشير علي وزميلي بأن نتبعها. قالت، دون كلمات، إنها تريد أن تؤدي الأمانة إلى أهلها. وقالت أيضا إنه لا يمكنها البتة أن تصارع رجلا كي تربح رهان مساعدتنا، ثم تتخلى عنا في بداية الطريق. قلت لها:"لست أدري كيف أشكرك، غير أنه سيتعين علينا انتظار زملاء لنا فاتهم القطار". أصرت على أن نمضي معها. ولم يكن لدينا بد من تلبية رغبتها.
بعد خطوات قليلة خارج المحطة، وكنت ألتفت خلفي لأرمق البوابة الفاتنة بخشبها الصقيل الماتع وقوسها المصبوغ بالفستقي، بدأت العجوز تلعب دور المرشد السياحي. قالت لي، وهي تمشي مثل راقصة بالى بلباسها الرياضي، وشعرها الرطب ما يزال ينبئ عن شابة جميلة، بأننا سندخل إلى أجمل حديقة في مدينة سان بتيرسبورغ، ونبهتني إلى أننا سنكون إزاء النافورة الأشهر هنا. أما زميلي فكان مشغولا بالتقاط الصور للجماهير المتدفقة على المحطة. كان يسجل أيضا بعض اللحظات المزوقة بلون التغني بالعلم المغربي أو العلم الإيراني. كان جنيا يستبق الضوء، ويصنع لحظات تكاد لا تكون حدثت في الواقع. كان يذهل.
في لحظات تالية، وقد صرنا وسط حديقة سان بتيرسبورغ، راح سقف الملعب، المستحوى من صحن طائر، يلوح لنا. قالت العجوز:"اطمئن، فلم يعد يفصلكما الكثير. في تقديري ما بين بوابة الحديقة والملعب كيلومتر ونصف فقط". واستغربت كثيرا لسيدة في ذلك العمر المتقدم تصف مسافة كيلومتر ونصف بأنها لا شيء. شكرتها مجددا، وعيني على زملائي المتخلفين عن رحلتنا. وشرحت لها الموقف، فإذا بها تزم شفتيها، وتحرك رأسها، كأنما تقول لي:"يؤسفني أنني لم أصل معكما حتى البوابة، ولكن ما دامت هذه رغبتكما فلا بأس". عادت تشير إلى ما تبقى من الطريق، حتى تطمئن. ثم ذابت وسط الجماهير المغربية والإيرانية، مثلما تذوب الرؤى الجميلة.
قدرت وزميلي رزقو ساعتها بأن بقية الزملاء سيصلون إلى الملعب دون أدنى عناء. وهكذا قررنا المضي حتى نربح الوقت. واخترقنا الحديقة؛ ويا لها من حديقة تسلب الألباب. فقد كنا إزاء روضة غناء بالفعل. على اليمين واليسار فسحتان كبيرتان حيث تشكيلات من الشجر بأغصانه التي تظل المكان، إذ تحجب أشعة شمس يوم حار ورطب، بأن تحولها إلى نسمات. وحيثما وليت الوجه مقاعد خشبية أنيقة لمن أراد أن يريح البدن. وهنا وهناك أزهار كأن ألوانها وأشكالها قصائد من شعر ابن زيدون. وفي الوسط حديقة خاصة بألعاب الأطفال، تلوح منها دائرة حديدية ضخمة نصفها معلق في الهواء. أما النافورة، التي توجد في موقع القلب، فقطعة فنية تجذب إليها الخاطر، وتستدعي وقفة مطولة، بل جلسة على الرخام البني الصقيل، والأذنان تنقلان رقصة الماء المتدفق على وقع موسيقى متواترة إلى الدماء، وكل رذاذ يملأ البدن راحة وانتعاشا.
كانت تلك الفسحة الحالمة أشبه بجائزة عيد الفطر. وقبلنا الجائزة بصدر رحب. تمنيت ساعتها أن يكون الزملاء الآخرون قد اتخذوا طريقنا في الوصول إلى الملعب، عساهم ينعموا بما تنعمنا به. غير أننا عرفنا منهم لاحقا بأنهم واصلوا إلى محطة أخرى، تفضي إلى الملعب من طريق ثان. وإذ حكينا لهم عن قصة "الصراع" بين الرجل الروسي وزوجته من جهة والسيدة العجوز من جهة أخرى حول من يساعدنا في الوصول إلى محطتنا، وجدنا لديهم مزيد. فاتفقنا ساعتها على أننا إزاء اكتشاف هذا الشعب المتحضر، وقدرنا أن ما سيأتي ربما سيكون فاتنا بالنسبة إلينا.
حين كنا نهم بدخول الملعب، مخترقين صفوف المتطوعين والمتطوعات الشباب، الذين ظلوا، مثل حمام النافورة، يوزعون الابتسامات والمصافحات بأكف إسفنجية كبيرة، التقينا زملاء آخرين؛ هم عبد اللطيف المتوكل، من جريدة رسالة الأمة، ورئيس الرابطة المغربية للصحافيين الرياضيين، وعيسى الكامحي، من جريدة الصباح، ويوسف بصور، من جريدة الأحداث المغربية. ومن عجيب الصدف أن أول ما قاله المتوكل، المتعب والمبتسم كالعادة:"إنها مدينة جميلة أكثر من اللازم. سنحاول أن نبقى يوما إضافيا. لا يكفي يومان لزيارة مدينة بهذا الجمال. لا، لا يكفيان".
بعد إجراءات أمنية صارمة جدا، أخرت دخولنا إلى الملعب إلى حين، إذ أخضعت محفظة الزميل رزقو لتفتيش مدقق، وهو يضم إليات التصوير، صعدنا إلى الطابق فوق الأرضي، واستدرنا كي نتأمل المدينة من هناك. اكتشفنا منظرا رائعا جدا؛ فهناك جسر معلق فوق مياه البحر يعبر بمحاذاة الملعب، ويأخذ العينين معه إلى داخل سان بتيرسبورغ، حيث تلوح القباب الذهبية للكنائس، وتتجاور أسطح العمارات الجميلة، ويعكس زجاج النوافذ أشعة شمس شهر يونيو، الذي يعد واحدا من أجمل الشهور في مدينة الليالي البيضاء، أو الليالي التي بلا ظلام. ويا سلام