كي تخسري هانية، كي تربحي زاهية !
ركبت الطائرة من مطار مونتيفيديو متوجها إلى مدريد، ولم يكن في نيتي أبدا زيارة كازابلانكا، لكني، وبمحض الصدفة، صادفت في طريقي شبابا يشجعون فريق كرة قدم مغربي، ويهتفون راخا، راخا.
كنت في تلك الفترة فاقدا لمتعة متابعة مباريات كرة القدم، ويائسا من كل شيء، وكل ما يحدث في العالم كان يصيبني بالقرف، فقررت أن أترك العاصمة الإسبانية، ومثقفيها، متوجها إلى أكبر مدينة في المغرب، علني أكتشف عالما جديدا لم يسبق لي التعرف عليه.
وصلت إلى كازابلانكا ظهيرة يوم سبت قائظ، فاستقليت تاكسي أبيض، طالبا من سائقه أن يأخذني إلى أقرب فندق، وفي الطريق وجدت نفس الجمهور الذي التقيت به في مدريد، بقمصانه الخضراء، يملأ الحافلات، والسيارات، ويمشي على الأقدام، ويعرقل حركة السير، وهو يغني، ويردد الشعارات، فطلبت من السائق أن يأخذني إلى الملعب لأرى هذا الفريق الذي لم أذكره في كتابي الشهير.
ويا للمفاجأة، فقد ترجم لي أحدهم شعارا كان جمهور الرجاء يرفعه، وهو نفسه تقريبا الذي سمعته قبل سنوات عديدة، في كاليا دي لاكوسا، من أطفال كانوا عائدين من لعب كرة القدم وهم يغنون: "ربحنا أم خسرنا، لن تتغير متعتنا، متعتنا تبقى كما هي، سواء أخسرنا أم ربحنا"، أما الرجاويون فكانوا يغنونه بطريقة أفضل وأبلغ، ويقولون "كي تربحي زاهية، كي تخسري هانية، كي نشوفك هادي هيا الدنيا"،وكم حزنت لأني لم أتعرف على هذا النادي، قبل أن أنشر كتابي"كرة القدم في الشمس والظل".
عايشين عيشة مهبولة!
كانت مباراة الرجاء مملة، وقد بلغني أن النادي يعاني من ضائقة مالية، واللاعبون يرفضون خوض التداريب، بينما وجدت المتعة في المدرجات، بين جمهور الرجاء.
وإذا كان ضروريا من مقارنتهم بجمهور ما، فهم أقرب إلى مشجعي فريق كولوكولو مع وجود فارق اللغة والعادات.
كل مشجع منهم يؤمن إيمانا عميقا أن فريقه هو الأفضل في العالم، ولهم نشيد يكيلون فيه الشتائم لناديهم، ويهددون اللاعبين، ويمنون النفس بالحصول على مسدسات ليردوهم قتلى.
وكلما سمع اللاعبون هذا الشعار، تزداد حماستهم للعب، وحينما صفر الحكم صافرة النهاية، توجهوا جميعا إلى جمهورهم، عارضين صدورهم ليتلقوا طلقات رصاص المسدسات، والسعادة تغمرهم، لأنهم يحظون بهذا النوع من الجمهور.
وبعد أن شاهدتهم، وعشت معهم، لم أعد مقتنعا بكتابي، واعتبرته منقوصا، وغير مكتمل، ولا يفي بالغرض.
لا يشبه جمهور الرجاء الهوليغانز، بل هو أقرب إلى تجمع كبير من الفوضويين، أو إلى تيار يساري عدمي، وقد سألت عن شاعر بينهم، وعمن يكتب لهم الشعارات، لكني لم أعثر على جواب.
وفي ثلاثينيات القرن الماضي، وحين كانت الكرة متعة، كان في مونتيفيديو فريق له جمهور يشبه جمهور الرجاء البيضاوي، ولم يكن يعنيه الفوز، بل القناطر الصغيرة والمراوغات، وعندما سمعت الرجاويين يرددون نشيدا يقول "عايشين عيشة مهبولة، خارجين على قانون الدولة"، تذكرت الفترة الذهبية للكرة في الأورغواي، وفوزنا بأول كأس عالم، لكن هذا النوع من الكرة لم يعد موجودا للأسف، وهذا النوع من الجمهور انقرض هو الآخر، ومن حسن حظنا، أنه مازال في المغرب.
ضرورة تأميم الرجاء!
لو كنت مغربيا لناديت بتأميم نادي الرجاء البيضاوي، كي يتوقف مسؤولوه عن العبث به.
فليس متاحا لأي فريق أن يكون له مثل هذا الجمهور، وأي دولة من واجبها أن تحافظ على ثرواتها، وأن لا تتركها تتبدد بهذا الشكل.
إنه يلعب أفضل من اللاعبين، وهو مباراة لوحده، وحتى عندما يكون فريقه في أسوأ حالاته، ينتصر جمهور الرجاء، ويمتع، ويصنع لقطات غير متوقعة.
وقد حكوا لي عن تاريخ الرجاء، وميله إلى اللعب الفرجوي، لكن يبدو أن ذلك كان في الماضي، أما اليوم فهو فريق عادي جدا، ومفلس، وجمهوره هو الذي يدفعه إلى الفوز.
وقبل سنوات شارك الرجاء في كأس العالم للأندية، وبفضل الجمهور، وصل إلى المباراة النهائية، ليواجه بايرن ميونيخ، وكلما فاز في مقابلة، كان المشجعون يطلبون في المدرجات من أمهاتهم إرسال المال، فيسمعهم اللاعبون، وتزداد حماستهم، وتصبح طريقهم إلى المرمى سالكة، ويضحك الشعب المغربي، وتعم الفرحة النساء والرجال والأطفال.
وأستغرب كيف يفلس فريق له كل هذا الجمهور، وكيف لا يهتم كتاب المغرب ومثقفوه بظاهرة كهذه، ويبحثون عن مواضيع بعيدة، ولا علاقة لها بهويتهم وخصوصيتهم. بينما أمامهم كنز، وظاهرة غير متوفرة في أي مكان.
ورغم أنه ليس من حقي التدخل في شؤون المغاربة، إلا أني لا أفهم كيف تتوفر بطولة ضعيفة، على جمهور قوي، ومثير، وخلاق، ولا مثيل له في كل العالم.
هل يمكن أن يكون هذا الجمهور في الواقع !
غادرت المغرب وأنا غير مصدق ما رأت عيني، وتمنيت لو أنه كان بإمكاني أن آخذ معي كل ذلك الجمهور، وأن ألعب بالرجاء في الريفر بليت، أو في البوكا جينيور، كما تخيلته يملأ الماراكانا.
فحتى نحن في أمريكا اللاتينية فقدنا هذا النوع من الجمهور، وهذا الحب لكرة قدم خيالية، بعد أن تأثرنا بالفعالية الأوربية، وبعقلانية الأوربيين، وبتحول هذه اللعبة إلى صناعة، يشتري القائمون عليها المواد الخام بثمن بخس من إفريقيا، ومن أمريكا اللاتينية، ثم يبيعونها بعد صقلها بالثمن الخيالي.
حين التقيت بحميد زيد !
آخر شيء كنت أتوقعه هو أن يتعرف على شخص في المغرب، لكني وأنا خارج من الملعب، سمعت أحدهم يناديني: سينيور غاليانو، سينيور إدواردو.
كان اسمه حميد زيد، وقد أخبرني أنه صحفي، ومعجب بكتبي، وأنه كان دائما يراني أفضل من يمكنه أن يكتب عن الرجاء، متأسفا لغياب مبدع مغربي تثيره ظاهرة جمهور هذا الفريق، فيحولها إلى عمل سينمائي، أو إلى فيلم وثائقي، أو إلى كتاب.
و قد قال لي، وفي قلبه غصه، إن الكتاب المغاربة يعتبرون كرة القدم موضوعا تافها، ولا يهتمون بها، وجديون أكثر من اللازم، ولا يستهويهم اللعب، وأن جمهورا كهذا، لو كان في بلاد أخرى، لتحول إلى ملهم.
كان مهووسا بناديه، فأسر لي أنه يحمل في داخله روح الرجاء، وأنه يتمنى أن يكتب مثلما يتخيل الرجاء وهي تلعب، وأنه يحفظ شعارات الجمهور عن ظهر قلب، ويرددها في الحمام، ويعتبرها من أجمل الأغاني المغربية.
ولأني أعرف مبالغات المشجعين، فقد استمعت إليه، وهو يحكي لي عن لاعب اسمه عمر النجاري، وأنه كان يغفو وينام في الملعب، وفجأة، يصحو، وبلمسة لا يتوقعها أحد، يقذف الكرة إلى المرمى، ويسجل الهدف، ثم يعود إلى النوم بعد ذلك.
وفي وقت من الأوقات صدقته، لأني بدوري تفرجت في لاعب من نادي مييوناريوس بوغوتا الكولومبي، له نفس المواصفات، وكان مدربه يعول عليه كثيرا، لكنه كان دائما يختفي عن الأنظار، فيبحثون عنه في كل مكان، دون أن يظهر له أثر، وقبل نهاية المباراة بربع ساعة، يظهر متثاقلا في مشيته، فينتعش الجمهور وتتعالى التصفيقات، ويقوم هو بتحيتهم، فيحضنه زملاؤه باعتباره منقذا لهم، ويدخل إلى رقعة الملعب، فتتبعه الكرة، كأن مغناطيسا في قدمه، ويأمرها أن تدخل إلى المرمى، فتستجيب له، وبعد ذلك يشرع في تحية الجمهور، ثم ينسحب، قبل نهاية المقابلة، ليختفي من جديد.
وكم كانت دهشتي، وأنا أسمع جمهور الرجاء البيضاوي يهتف باسمي على طول شارع أنفا، كأنهم جميعا اطلعوا على كتابي، وفي الحافلات، وعلى متن الدراجات، كانوا يهتفون غاليانو رجاوي، غاليانو رجاوي، ويشتمون إدارة فريقهم، فوعدت حميد زيد، أن أكتب عن عن هذا الجمهور، الذي يستحق رجاء أفضل من هذه، وبطولة في المستوى، ويستحق مسؤولين أفضل من هؤلاء الذين يسيرونها اليوم، وملعبا محترما يليق به، بدل اضطراه كل أسبوع إلى الهجرة إلى مدن أخرى، كجمهور شريد، ولا فريق له.