بقلم : يونس الخراشي
عاد زملاء لنا من كينشاسا، حيث غطوا، في ظروف سيئة جدا، مباراة نهائي كأس كاف، التي آلت لفريق فيتا كلوب نتيجة، وآل لقبها للرجاء. كاد بعضهم يقضي؛ يموت. وما زال البعض الآخر يحكي ويعيد، لمرات، ما وقع من فظاعات. ومع ذلك، فإن من بعثوهم إلى هناك لم يهتموا بالظروف، والفظاعات، والنجاة من الموت، بقدر ما اهتموا بالمقالات، والصور، والفيديوهات، قصد كسب المزيد من النقرات، وبالتالي المزيد من المال.
يا للإنسانية العظيمة. يفترض في أننا في مهنة نبيلة، وإزاء تغطية مباراة في الرياضة، بما هي نشاط إنساني يحرك الأبدان والمشاعر. ومع ذلك، فإن أمثال هؤلاء لم يرف لهم جفن، وراحوا يسألون عن المقالات، والنقرات، وكأن الصحافيين مجرد آلات مصنوعة من معادن رخيصة، لا يهم إن ماتوا أو قتلوا أو شرد بهم.
في شتاء سنة 2004 عشت حدثا شبيها بالذي عاشه الزملاء يوم أمس (الأحد / 2 نونبر 2018) بكنشاسا. كنت ابتعثت من قبل جريدتي لتغطية مباراة المغرب والجزائر في ربع نهائي كأس إفريقيا، ملتحقا بالزميل هشام رمرام الذي غطى كل المنافسة، مع المصور الفنان مصطفى الشرقاوي.
عشت مأساة حقيقة. غادرنا من مطار محمد الخامس في صباح مبكر جدا. ولأن الضباب كان كثيفا جدا، فقد توقفنا في إحدى المدن التونسية، لساعات. تركنا في المطار مثل سقط المتاع. في حين ذهب المسؤولون، ومعهم الكاتب العام لوزارة الشباب والرياضة، حينها، إلى الفندق ليستريحوا. ثم أقلعت الطائرة، ونحن ّنموت جوعا وتعبا". وحين وصلنا إلى صفاقس، حملنا، مثل صناديق للبطاطس، إلى الملعب مباشرة. لم يكن معنا لا ماء ولا طعام، ولا "حتى هواء".
أدخلنا، بفعل الحضور الكبير للجزائريين، إلى ركن قصي مقصي، حيث بقينا وقوفا لساعات. وحين انطلقت المباراة، بعد فوضى كبيرة في الملعب، أحدثا جانب من الجمهور الجزائري، كان البرد القارس قد نال منا كثيرا.
في الأخير، وبعد أن انتهت المباراة لفائدة المغرب بثلاثة أهداف لهدف، والتأهل إلى نصف النهائي، إذا بالمسؤولين عن أمن الملعب يطلبون منا أن نبقى حيث نحن، اتقاء لفوضى الشارع. ولم نغادر إلا بعد أزيد من ساعة، في جنح الظلام، وبلا أي نظام. كان أمنيون تونسيون يقولون لنا:"شكرا للمغرب الذي أقصى الجزائر، فلسنا ندري من بعث بمثل هذا الجمهور (يقصدون بعض الجانحين الذين حضروا مع الأشقاء الجزائريين، وبدا أنهم مخدرين، بحيث ظلوا يدخلون أرضية الملعب لأكثر من مرة، ويفسدون النظام / كان رد فعل الأمن التونسي قاسيا جدا، وشاهدناه بالأعين المجردة).
إذ غادرنا الملعب، وصعدنا سيارة "ميني باص" لنتجه إلى المطار، فنعود إلى المغرب، لم يكن يهمنا أن نأكل أو نشرب، أو حتى أن نذهب إلى المرحاض؛ وأين هو يا ترى المرحاض، أو حتى الثبات للذهاب إليه؟ إذا بنا إزاء وضع يشبه فيما أمريكيا للأكشن. فقد اكتشفنا بأن الجماهير الغاضبة كانت ما تزال تحيط بالملعب من كل جانب، تنتظر خروج الجمهور المغربي كي "تنتقم" منه.
وإذا بالسائق التونسي المسكين يفر من جانب إلى جانب، ونحن بداخل تلك السيارة نكاد نسمع وجيب قلوب بعضنا البعض، والمركبة تترجرج بنا في موج من ظلام. لا نعرف إلى أين نسير، أو كيف سنسير.
وهكذا ظللنا، معذبين عذابا أليما، لا يعلمه إلا الله، حتى وصلنا إلى المطار. سمعت أحدهم يقول للسائق:"نجاك الله من هذيك الحجرة". نعم، حجرة كبيرة قذف بها نحونا، وبينما راح يتقيها، هربا، إذا به يصعد الرصيف المتوسط للشارع، فتلامس رؤوسنا سقف المركبة. نجونا فعلا من موت وشيك، أو لعلنا "متنا خوفا" وبعث الله السكينة في قلوبنا.
حين عدنا، وتعذبنا، وعانينا، وجدتني أكتب التفاصيل. حال وصولي كتبت. ثم إذ ذهبت إلى الجريدة وضعت الربورتاج لدى رئيس التحرير. وفي اليوم التالي جاء المدير المسؤول، حينها، ليهنئني على المقال. قال لي:"برافو عليك. كتبته بسرعة، وبجودة عالية". سرني أنه شكر لي صنيعي، فذلك أمر نادر جدا في عالمنا الإعلامي، لكنه لم يسألني عن حالي، ولم يكن ذلك عجيبا.
يا للانزياح العظيم في قلوبنا.. أنسأل عن مقال، وننسى أن نسأل عمن يكتبون المقال؟
هذه صحافتنا.. وهذا جزء من الانزياح..