بلغنا أن الجماهير المغربية، المتفاعلة مع بعضها في وسائل الاتصال الحديثة، ارتأت توجيه رسالة تشجيع إلى المنتخب الوطني، من الساحة الحمراء. وقدرنا أنها فرصة جميلة كي نكتشف الساحة، ونشتغل على موضوع جميل يهم الجمهور والمنتخب. وبدأنا الإعداد للأمسية الجميلة. كان اللقاء الجماهيري مقررا في التاسعة مساء.
كنا أكثر راحة مما سبق. ومع ذلك، قدرنا أن الذهاب في وقت مبكر سيكون أفضل، لغرض اكتشاف المكان، والإعداد للعمل بالنسبة إلى الزملاء في المواقع الإلكترونية والتفزيون. ثم توجهنا إلى محطة الميترو الأقرب إلى الفندق، على مسافة تقارب الكيلومتر عبر طريق غابوي جميل.
كانت رحلة ممتعة حقا. اكتشفنا كم هو رائع ميترو الأنفاق في موسكو. فمع أنه يعود إلى سنة 1935، غير أنه عبارة عن تحفة. تنزل ستين مترا أو أكثر تحت الأرض، لتجد نفسك في عالم جديد. كل محطة توقف ببهو شاسع، وسقف مقوس مزين بالجبس أو بلوحات مصبوغة، وبثريات جميلة منوعة، وجانبين لاستقبال القطارات، تمضي إليهما عبر أقواس.
يتوزع الرواد بين مسرع وغير عابئ بالزمن. فيذهب أحدهم إلى يمين الدرج المتحرك ميكانيكيا بهدوء، ويسرع الآخر إلى اليسار، حيث يمكنه أن يتحرك مع حركة الدرج. وفي النهاية، يستعين المستعمل الجديد باللوحات المبثوثة في كل مكان، حيث خارطة الطريق تقوم على لون لكل خط، وتوجيهات في الأرضيات بالأرقام والأسهم.
وفي لحظة الوصول، ترى الناس مسرعين كما لو أنهم في سباق لمائة متر. كل يتجه إلى مخرج من المخارج الكثيرة. أما وقد تجاوزنا البوابة ذلك اليوم، فقد وجدنا أنفسنا أمام منظر أخاذ لشارع فسيح جدا، ببنايات عملاقة، تعطيك الانطباع بأنك في دولة "عظمى" بالفعل. هذا مقصود لذاته. فالشارع يؤدي إلى شوارع أخرى مثيلة في الاتساع والطول. وعلى الجانبين عمارات كبيرة بعمران باذخ الجمال. وعلى الرصيف، المتسع هو الآخر، خضرة، ونافورات، ومقاه تطل ببهائها على الخارج برواد تشع من وجوههم الحياة.
سألنا عن الاتجاه المفترض، فوجهنا أحدهم إليه. ورحنا نسرع الخطى. ثم إذا بنا نرى، في مدى قريب جدا، مقر الكريملين ببنائه الشامخ، والمزوق، وبالقرميد العجيب، وهو يستقبلنا، ويستعجلنا. يا للمنظر الذي لطالما رأيناه في الكتب والتلفزيون، ها هو ذا أمامنا الآن. هيا إذن نستكشف التاريخ في الحاضر.
ذهلنا بما كنا نرى. منظر أخاذ بحق. التاريخ يستفزنا بقوة اللحظة. ورحنا نقترب أكثر فأكثر منه. ثم إذا بنا نرفع الرؤوس كي ندقق النظر. نعم هو ذاك الذي لطالما قرأنا عنه. وها هو بصمته الشيوعي، وصخبه المونديالي، يستقبلنا. وها نحن نكتشفه من كل جانب، برؤى مختلفة، من زوايا متعددة.
الجديد في القديم كله كان تلك الروح الرأسمالية التي شغلت المكان الشيوعي كله. فقد ذهبت الرهبة، وحلت الرغبة. انتهى زمن ستالين المرعب بصفوف انتظار الخبز، وحل زمن ماكدونالز وشوارمة وكوكاكولا. العالم كله كان يتوافد على الساحة الحمراء، ويهتف، ويرقص، ويصافح بعضه البعض، ويغني لكرة القدم.
فكرنا في وجبة غذاء خفيفة، فإذا بأحدهم يوجهنا نحو الأسفل. نعم، أسفل الساحة الحمراء. قال لنا إن هناك سوقا ممتازة كبيرة فيها من كل فن طرف. وكان ذلك صحيحا، إذ عثرنا على مول كبير، بأدراج تؤدي إلى ثلاث طوابق، وفي كل طابق نوع من المبيعات. ما همنا على الخصوص، في تلك الأثناء، هو الطابق الثاني الذي كان يضم محلات للأكل.
كان خليل أبورزان، زميلنا من موقع le360 هو القائد في تلك المرحلة بالذات. فهو دليل لا يشق له غبار. يعرف الأماكن قبل حتى أن يذهب إليها، يخطط بدقة. يرسم، ويكتب، ويتعرف إلى كل صغيرة وكبيرة بالإنترنيت. ونصيحته قلما تخطئ. وقادنا إلى محل يبيع "الطون" في "باكيط" طويلة ورطبة. واختار بعضنا محلا سوريا لبيع المأكولات الحلال.
كان منظر ذلك المكان عجيبا جدا، ونحن نجلس تحت الساحة الحمراء. كل الأجناس حاضرة هناك. ولكل أكله الخاص به، وشرابه. قلما ترى رجل أمن، ولكن أبدا لا ترى ما يستدعي تدخل الأمن. هناك انضباط لا نظير له، وكل يجد ضالته في طمأنينة مطلقة. حتى العيون لا تزعج العيون.
في لحظات لاحقة ارتأينا بأن الوقت صار مناسبا كي نواصل اكتشاف الساحة الحمراء، وإذا بنا نجد الجماهير المغربية تتوافد على المكان، وتستعد لتوجيه رسالتها إلى المنتخب الوطني، ومفادها بأنها ستواصل التشجيع، وأن الخسارة في المباراة الأولى ليست هي نهاية العالم، ويمكن للأسود أن يربحوا المباراة الثانية، ويفتحوا بابا آخر للأمل في العبور نحو الدور الثاني.
علمت في ما بعد بأن مسؤولا مغربيا استقدم شاحنة مليئة بقمصان المنتخب، وقدمها هدية للجماهير المغربية. أما ما شهدت عليه، فهو ذلك الانضباط التام لجماهيرنا في الساحة الحمراء. كانت في الموعد الذي ضربته لبعضها. ولم تزعج أحدا، بقدر ما خلقت جوا مرحا، استلذه الأجانب والروس معا، إذ راحوا ينضمون إلى الكتلة المغربية، فتراهم يرقصون، ويغنون، وإن لم يفهموا ما كان يقال.
كانت الجماهير المغربية تعبيرا حقيقا عن المغرب الحالي. فالأغلبية لم يأتوا من المغرب، بل من دول العالم الأخرى؛ من أوروبا وأمريكا وآسيا وأستراليا أيضا. جاؤوا من كل فج عميق، طلبة وأساتذة وأطرا. فرادا وأسرا. جاؤوا جميعا بفكرة واحدة، تشجيع المنتخب، واكتشاف روسيا؛ تلك التي صورها الإعلام دائما على أنها عبوسة، وكسولة، وفيها فقر، وبرد، ولا شيء آخر.
بعد ساعة أو يزيد، وكان الليل يزحف على المكان كله، فتشع الأضواء، وتنعكس على الأحمر القرمزي للجدران، وعلى القباب الذهبية، والمآذن المزوقة، ارتأينا أن الوقت حان كي نبدأ عودتنا إلى الفندق، ونشتغل على ما جمعناه من أخبار وربورتاجات، لعل رسالة الجماهير تصل بالطريقة المثلى.
تبعنا خطى من كانوا يعودون. ننزل إلى الأسفل، ثم نبحث عن الخط الأخضر الذي يقودنا إلى خوفرينو. ثم نركب القطار، ونتشبث جيدا بالأعمدة الفضية، وإلا سقطنا لفرط ما يسرع القطار. ونراقب المحطات جيدا. ثم ها نحن في محطة خوفرينو، وما علينا سوى أن نزور سوقا قريبا نشتري منه بعض الفواكه وبعض الألبان، ثم نمضي في غابتنا، إلى حينا، إلى فندقنا.
كانت ليلة من الليالي التي لا تنسى. بلغ صداها إلى العالم. واستحسن كثيرون تلك الرسالة التب بعثها الجمهور المغربي إلى منتخبه. كان اللاعبون بحاجة إلى دفعة معنوية كبيرة. ظنوا، وبخاصة اللاعب بوحدوز، أنهم أخطأوا. ولم يظنوا بأن الجمهور يتفهم الخطأ. وبإطلالة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي كانت ترافقنا في الميترو، وفي غيره، رأينا عجبا من التجاوب المفرط.
حين وصلنا الفندق، وجدناه روضة هادئة تبعث الراحة في النفس. ولكن غرفه كانت تدعونا إلى الإسراع بالعمل. وبعضنا لم يكن ينام ليله، بل يشتغل حتى الصباح، ثم ينام. تواصلت مع الزوجة والأبناء مجددا. تحدثنا حوالي ساعة، وكانت هاجر قد هزلت بفعل قسوة الفراق. أما محمد رضى فوجدته متماسكا، غير أنه كان يبكي كلما توارى عن الكاميرا. وأمهما ناضلت كثيرا في غيابي. كانت امرأة عظيمة حقا.
بدأت العمل بعد "تحميمة" جيدة. ولم أنته إلا والشمس تطل علي من النافذة بأشعة صافية تكاد تلامسني. استلقيت في السرير. ومرة أخرى، لم أنم سوى قليلا جدا. ثم إذا بي في يوم آخر. في الحقيقة كنت في اليوم نفسه. وخمنت أن أحسن شيء يمكنني أن أبدأ به يومي هو تمرين في حديقة خوفرينو. ألم يقل فلاسفة اليونان إن أفضل الأفكار تأتينا ونحن نمشي؟ هيا إلى المشي.. وبعض الهرولة.