بقلم - يونس الخراشي
قال لها هشام:"في أي وقت تنهون العمل؟". ابتسمت ويدها ما تزال على فأرة الحاسوب الأبيض الكبير، قائلة:"السابعة مساء". قلت لها وعيني ترمقانالساعة البيضاء الصغيرة المعلقة على الجدار، بين تذكارات من مدن عاملية مختلفة، "نعتذر كثيرا. إنها التاسعة الآن. هذا يعني أننا أخرناكم كثيراعن الموعد اليومي". ابتسمت مرة أخرى وهي تهز كتفيها بخفة. قالت:"لا يهم.لا تعتذروا. نحن في خدمتكم".
حين دخلنا المكتب الصغير وجدنا سيدة متقدمة في السن تستفسر عن شؤون خاصة. طلبت منا المستخدة الشابة أن ننتظر بعض الوقت إلى أن تنتهي زميلتها من خدمة السيدة. ثم إذا بالأخرى تسارع نحونا، لكي تقدم لنا المطلوب. هي وحدها تتحدث الإنجليزية. شرعت تستفسرنا، بناء على المعطيات التي سبق أن شرحتها لها من قادتنا إلى المكتب. وطلبت إذنا بسيطا. قالت للسيدة:"أعتذر. هؤلاء أجانب، سيحتاجونني أكثر". أو هكذا فهمت من الإشارة. فقد تحدثتا
بالروسية.
انطلقت في خدمتنا لما يزيد عن ساعتين. لم تتوقف لحظة. لم تطلب كوب ماء أو كأس شاي. لم تتنفس. لم تغادر المكتب. انفعلت لبرهة حين طلبنا منها أن تحصل على المقابل من كل شخص على حدة. كان عليها أن تعيد الحساب من البداية. ثم سرعان ما استرجعت الخيط الضائع. تبسمت. وواصلت العمل. وحين احتاج الأمر أن نبحث عن مكتب لصرف العملات، قررت أن تصاحبني إلى "الاستقبالات" بالفندق. تسرع الخطى. تشرح. تقول لي :"مغلق". أستعطفها كي تحل لنا المشكلة. تعض على أسنانها للحظات. تشير لي، اتبعني، سأجد الحل.
تطلب استصدار تذاكر بالطائرة من موسكو إلى سان بتيرسبورغ، لسبعة أشخاص، وأخرى من موسكو إلى كالينينغراد، عملا مضنيا فاق التصور. حتى الآلة الحاسبة للصرف توقفت هنيهة. لم تقبل روبلات بعينها. أما المستخدمة فلم تتوقف عن شيئين؛ العمل والابتسامة. وبينما سألتنا المستخدمة الأخرى إن كنا نرغب في شاي أخضر أو بعض الماء، فإنها لم تسأل زميلتها ذلك. أما وقد
تبين لنا أنه موعد الإفطار، لليوم الأخير من رمضان، ورحنا نستخرج بعض الحلويات لنفطر، فقد رفضت وزميلتها مشاركتنا الأكل. وواصلتا العمل.غادرنا الفندق هذه المرة من الدرج. على سجاد أحمر مفروش فوق أدراج من الخشب القديم، وسط عمارة عتيقة، لعلها من الزمن القيصري أو الستاليني. حييت رجل الأمن الخاص. لم يرد التحية. ظل جبينه مقطبا. تماما كما كان عليه الأمر في مناسبتين. الأولى حين دخلنا الفندق مستهدين بالإشارات التي أرشدنا بها بعضهم. وفي المرة الثانية على هدى من الشابة الروسية المؤدبة. طلب منا الجوازات في المرتين. وطلب من زميل له أن يعيد تفتيش الحقائب حتى في المرة الثانية.
لم ننشغل طويلا بالأمر. فقد كان الوقت متأخرا، ويتعين علينا أن نسافر مبكرا في اليوم الموالي. ورغم أننا أسرعنا الخطى، فلم نصل إلى الفندق إلا في وقت متأخر للغاية. حوالي الواحدة صباحا. من حسن الحظ أننا كنا كلما ولجنا محطة لميترو الأنفاق وجدنا مرشدا أو مرشدة. من يتطوع ليدلنا على الطريق الصحيح. حتى مع وجود الإشارات التي تسهل كل شيء، فإن الخط الروسي يصعب المهمة. يجعل السير السلس لخطوات الغريب مستحيلا.
وجبة العشاء كانت عجيبة جدا هي الأخرى. كنا نمر من شارع واسع عريض. لعل كل الشوارع في موسكو عظمى. وإذا بي أرمق محلا يبيع بعض الخبز والحلويات. اقترحت على الرفقاء أن نسأل، عسانا نجد ما يسد رمقنا. فنكون ضربنا عصفورين بحجر؛ نتناول عشاءنا وننطلق نحو النوم. تبين من الشابة الزحيدة في ذلك المطعم الصغير؛ بطاولاته الخشبية الجميلة، وسجاده المريح للأقدام، أنهم يقدمون شايا منسما، وساندويتشات بالسلمون، ومياه معدنية عادية وأخرى
غازية.
طلبنا وجبات سريعة. فقد كان العياء ينهش عظامنا. وأرحنا أجسادنا على الكراسي الخشبية. ثم رحنا نسترجع ما حدث ذلك اليوم. وتساءل بعضنا:"هل يمكن، مثلا، أن تشتغل فتاة مغربية بمفردها في محل كهذا دون أن تكون عرضة للمضايقات؟ لم نجب على السؤال. أما الفتاة فاختفت. بقينا لوحدنا نواصلالأكل والحديث. ومن عجب، لم يدخل أحد طوال تلك المدة التي شغلنا فيها
كراسي المطعم الرائع البسيط. في الخارج كانت الحركة دؤوبة جدا على الأسفلت. سيارات من مختلف الأنواع تتحرك بسرعة في اتجاه واحد بشارع واسع جدا. أما المشاة فقليلون جدا. والقليل يسرع الخطى. وقليل القليل يتريض. وهذا القليل جدا أغلبه بسنمتقدمة. والبعض يستخدم "الباتان روليت" برشاقة عجيبة. فلا ينتبه أحد إلى الآخر. كل منشغل بنفسه. فإما أن العين على الهاتف، أو هي على مرافق أو مرافقة. وفي لحظة استقرت النظر إلى
هاتف سيدة بجانبي في الميترو، فوجدت عينيها على كتاب مسموع. تنصت وتقرأ في الوقت نفسه. هذه فعلا أمة تقرأ. في اليوم الموالي توصل الزميل هشام رمرام باتصال هاتفي داخلي. كانت المستخدمة نفسها في الجانب الآخر من الخط. سألته:"هل وصلتم بخير إلى سان بتيرسبورغ؟". زاد العجب. وقالت أيضا:"أي خدمة، أنا على الخط باستمرار. تحياتي". ضحكنا في بيننا. فمن يفترض فيهم أن يسألوا إن كنا ما نزال على قيد الحياة، لم يفعلوا. أولئك الذين ورطونا في معاناة لا تنسى. حتى إنالشباب لم يناموا مثل البشر إلا في اليوم الثالث من الرحلة. مع أن إجراءتبسيطة لبعضهم كان يمكنها أن تريحنا من صداع الرأس، وتفسح لنا الوقت لننقلصورة روسيا اليوم إلى المغاربة.