بقلم : يونس الخراشي
قررنا أن نبحث عن وكالة للأسفار دون أن نركب أي وسيلة نقل. وإذا بنا نقضي ساعات في البحث. فكلما كان يدلنا أحدهم على مكان معين، نتجه إليه، فنجد أنفسنا إزاء طريق ممتد، ولا تنفعنا الكتابات في شيء، بتلك الأحرف العجيبة. ثم نسأل مجددا، ونمضي، كما لو أننا في رحلة مشي إلى بلد آخر.
كانت الشوارع، وسط العاصمة، طويلة جدا، وشاسعة للغاية، وبقدر ما هي ملئى بالسيارات، فهي غير آهلة بالناس. ولأننا لم ننم إلا قليلا طيلة الأيام الماضية، فقد شعرنا بإرهاق كبير. وكان أكثرنا إرهاقا الزميل محمد بوناجي، الذي ظل يمشي معنا وهو يحمل حقيبة تزن ما يزيد على 18 كيلوغاراما؛ حقيبة آليات التصوير.
ما سلانا في تلك الرحلة الطويلة المتعبة، وجعل النشاط يتجد في دمائنا، هو جمالية الأشياء من حولنا. فقد كنا نمضي مأخوذين بسحر العمران، وجودة البنيان، وتناسق الأشكال والألوان. بل إن الأسئلة لم تكف عن التواتر؛ كيف بنى هؤلاء مدنهم بهذا الشكل الجميل، وجعلوها أمكنة للعيش المريح، وبنينا ما لا يبنى، وأجرمنا في حق أنفسنا وأهلينا؟
في لحظة من اللحظات، وقد يئسنا من العثور على وكالة الأسفار، مع أنها كانت قريبة مثل الأنف، لولا أن تلك الأحرف الروسية لم تساعدنا، قررنا الاستعانة بسيارة أجرة. قال هشام رمرام:"الوقت يداهمنا، وسنحتاج إلى الانتهاء من هذا الأمر بسرعة. لقد ضاع منا حفل الافتتاح، غير أنم ضياع مباراة المغرب وإيران ليس مسموحا به".
اقترح هشام بنثابت أن يستعين بخدمة هاتفية خاصة بسيارات الأجرة الروسية، بيما رحت، وبقية الزملاء، نستفسر عن مكان الوكالة، على فرض أنها قريبة منا. وفي لحظة سمعت بنثابت يقول:"الطاكسي سيكون هنا بعد 3 دقائق". توقفنا ننتظر. وإذ حضر الشاب الملتحي، وراح يستفسر منا عن المكان، وهو ما يزال في سيارته، عرفنا أن الأمر سيتطلب المزيد من الوقت. لقد كان جاهلا بكل اللغات الأخرى غير الروسية، واضطررنا إلى استعمال خدمات الترجمة الفورية. ومع ذلك، لم نصل إلى شيء.
وبينما نحن كذلك، مثل ممثلي الميم في مسرحية عبثية، وسط شارع كبير جدا، بعمارات شاهقة، والوقت يفر من بين أيدينا، إذا بسيدة تتوقف، وتسألنا":هل تتكلمون الإيطالية؟". ثم راحت تتحدث بالروسية بسرعة وبصوت عال. ظنناها ترغب في استعمال سيارة الأجرة التي لا نستفيد منها في شيء. ذلك أنها كانت تتحدث مع السائق بلهجة فيها غضب كبير، أو هكذا قدرنا ساعتها، حتى إننا شعرنا بحرج كبير، وقال لها أحدنا، دون أن يدري ما إن كانت ستفهم:"يمكنك استعمال الطاكسي سيدتي، لا يهم".
لحسن الحظ أن شابة جميلة، بتنورة وردية، وظفائر، تدخلت في الوقت المناسب. لست أدري إلى الساعة من أي سماء نزلت تلك الشابة. غير أنها كانت مثل ملاك بالنسبة إلى تائهين منهكين وفي وضع حرج مثلنا. سألتنا بإنجليزية أنيقة، وبهدوء وابتسام:"هل من مساعدة أقدمها لكم؟". شرحنا لها وضعنا، بينما كانت السيدة الأخرى تواصل الصراخ في وجه سائق الطاكسي. ثم إذا بها تتحدث معها، ونراها تتهيأ للانسحاب، ثم وهي تنسحب. وبقينا معا، في انتظار ما سيقع.
قالت الشابة إن السيدة التي كانت تصرخ إنما فعلت ذلك لأجلنا. لقد كانت توضح للسائق بأن عليه أن ينسحب، لأن المكان المطلوب قريب للغاية، ولن يحتاج منا سوى لخطوات. ضحكت نصف ضحكة ثم أتمت:"كانت تحاول أن توضح لكم بأن المكان قريب، غير أن اللغة لم تسعفها في ذلك". وقالت لسائق سيارة الأجرة بدوره كلمات رقيقات، فإذا به يصعد إلى السيارة، وينطلق بهدوء، بعد تحيتنا.
كنا نتسائل مع أنفسنا عما يحدث. قلت في نفسي:"هل هذا بريء؟". وعرفت من الشباب معي بأن نفس السؤال ورد على أذهانهم في تلك اللحظة. للأسف، تلك ثقافتنا التي اكتسبناها من واقع مر. "لا تآمن، لا تستأمن، لا تدير أمان في بلاد الأمان". وفي لحظة قالت الشابة الروسية:"اتبعوني. الوكالة توجد في هذا الفندق". ضحكت في أعماقي. لقد كنا بالفعل في ذلك الفندق قبل حين، بعد أن وجهنا أحدهم إليه بكتابة العنوان على ورقة صغيرة. وخضعنا للتفتيش، ولتدقيق جوازات سفرنا. وها نحن نعود إليه. لعله يوم لن ينتهي. يا للتعب.
حين دخلنا الفندق المهيب، وعاد رجل الأمن الخاص ليخضع جوازاتنا للتفتيش، وعلى الخصوص تلك الوثيقة العجيبة التي أكد علينا موظفو الجمارك ضرورة الاحتفاظ بها إلى حين المغادرة، قالت الفتاة:"هنا توجد الوكالة". شرحنا لها ما وقع معنا من قبل. وإذا بها تستعمل الهاتف هذه المرة؛ هافتها يا سادة. ثم إذا بشابة ثانية تنزل الأدراج، وتقترب منها. تحدثتا قليلا. واستدارت رفيقتنا نحونا بخفة، لتقول لنا وهي تبتسم:"إنها مساعدة بالوكالة التي تبحثون عنها. اتبعوها، ستقوم باللازم".
حين كانت الشابة الروسية تنحني لنا، ثم تنطلق، وهي مثل بطلة خارقة خرجت للتو من الكتاب الذي تتأبطه، إذا بنا نتسمر مشدوهين. كيف لهذه السيدة أن تترك كل أشيائها لأجلنا نحن؟ لماذا تضيع كل هذا الوقت لتطمئن علينا؟ ألم يكفها أن يشير علينا بالفندق وانتهى الكلام؟ ولماذا ظلت تلح على الشابة الأخرى كي تفهم وتستوعب مرادنا؟
طلبت منا الشابة المساعدة أن نتبعها، وقد فهمت من الأولى مرادنا، وأكدت أنها ستحجز لنا في طائرة الغد نحو سان بتيرسبورغ. وفي لحظة تالية إذا بنا في الطابق الثاني للفندق المهيب. تقدمنا حوالي عشرين مترا في بهو رائع، وهادئ، وبجدران مكسوة بالورق المزوق، وعقلت فيه لوحات فنية جميلة. ثم استدرنا يمينا نتبعها، لتدخل إلى غرفة ضيقة. وقالت:"أنتم في الوكالة. تفضلوا". أخيرا. آن لنا أن نتنفس الصعداء. أو هكذا ظننا.