بقلم - توفيق بو عشرين
«لا تهتموا بما يقولونه، دققوا في ما يفعلونه». هذه الجملة تصلح لافتة تعلق على باب المشاورات الجارية بين الأحزاب لتشكيل حكومة جديدة، تعذرت ولادتها لمدة ستة أشهر، لأن الحمل لم يكن منتظرا، وفاجأ الجميع وصول المصباح أولا إلى مضمار السباق الانتخابي الذي لم يكن فيه متنافسون كثيرون، وفوق هذا وصل على ظهر هذا النصر زعيم وراءه شعبية كبيرة.
تصريحات رؤساء الأحزاب الناعمة، يوم أمس، في لقاءاتهم مع العثماني، وابتساماتهم في حي الليمون أمام الكاميرات لا تعني أي شيء، فقد سبق لهم جميعا أن قالوا الكلام نفسه لبنكيران، قبل أن يصطدم بصخرة البلوكاج التي كسرت سفينته، فاضطر الربان إلى القبول بإقالته من القيادة والرجوع إلى الوراء، رغم أنه أمين عام الحزب الذي فاز بالمرتبة الأولى في الانتخابات، ورغم أنه فاز بثلاثة انتخابات متتالية، ورغم أنه عرض نفسه على استفتاء صغير في سلا بمناسبة الانتخابات التشريعية الأخيرة، في الوقت الذي فر جل رؤساء الأحزاب من الامتحان، وفضلوا متابعة الانتخابات من الغرف المغلقة.
يحاول العثماني أن يجرب منهجية هادئة لاستطلاع مواقف الأحزاب حول نيتها بشأن المشاركة في حكومة ائتلافية، ويقيس الآن مدى قبول أطراف وازنة في السلطة بنتائج اقتراع السابع من أكتوبر، ومدى استعدادها للعمل بحسن نية مع حكومة يرأسها طبيب ملتحٍ، وأمله، وأمل حزبه، أن ترضى هذه الأحزاب، ومن يقف خلفها، برأس بنكيران ثمنا لفك تحالف البلوكاج، ففي النهاية العثماني ليس ساحرا، ولن «يعزم» على أخنوش ولشكر والعنصر وساجد والعماري حتى يقبلوا اليوم ما كانوا يرفضونه بالأمس. السياسة حسابات ومصالح وميزان قوى، وليست فقط أسلوبا وطبعا ومزاجا. العثماني يجرب أن يفتح طريقا جديدا إلى الحكومة، ولسان حاله وحال حزبه يقول: «إذا كانت شعبية بنكيران وأسلوبه وكاريزميته هي المستهدفة من وراء عرقلة ميلاد الحكومة الثانية للعدالة والتنمية، فها هو رأس الزعيم قد سقط، وها أنتم أبعدتموه عن المسرح السياسي في أوج عطائه، بعدما صار رقما صعبا في المعادلة، فهل هذا كافٍ كثمن سياسي لكي تزيلوا الأحجار من أمام العربة، وتتركوا المصباح يقود الحكومة؟».
«رأس بنكيران» أهم ورقة لدى العثماني يتفاوض بها مع رفاق البلوكاج، ومع الجهة التي هندست هذا السيناريو منذ البداية، لكن العثماني لا يمكن أن يقبل برئاسة حكومة لا تحكم في أي شيء، ولا يمكن أن يقبل بهندسة وزارية تستولي فيها أحزاب الإدارة القديمة والجديدة على الحقائب الوازنة، فقط لكي يجلس في مكتب صغير في المشور السعيد، يلوك الكلام مع وزراء حزبه، فيما الوزارات الأساسية، في الداخلية والخارجية والمالية والتجهيز والتجارة والصناعة والتعليم، تدار من خارج رئاسة الحكومة.
العثماني أمامه ثلاثة استحقاقات كبيرة ومصيرية لا يمكن أن يتجاهلها، الأول هو إرث بنكيران وحجم حضوره في الساحة السياسية، فإذا كان للطبيب النفسي أسلوب خاص وطريقة مغايرة في الإدارة، فهذا لا يعفيه من مهام ملء مقعد كبير تركه بنكيران وراءه بكل مزاياه وعيوبه. ثانيا، أمام العثماني مؤتمر عام للحزب نهاية السنة، وإذا أراد أن يجمع أمانة الحزب حول رئاسة الحكومة، فعليه أن يقدم العربون على أنه لا يجري خلف المنصب بأي ثمن، ولا يسعى إلى أن يكون عجينة طيعة في يد السلطة، وأنه ملتزم باحترام الخيار الديمقراطي، ومقتضيات الدستور، ونتائج الاقتراع. أما الاستحقاق الثالث المنتصب أمام العثماني، فهو الحفاظ على وحدة الحزب بعد الرجة الكبيرة التي تعرض لها عقب الإطاحة برأس زعيمه عبد الإله بنكيران، الذي لن يسدل الستار على مساره السياسي ولن يجلس في بيته يكتب مذكراته. الذي تابع أشغال المجلس الوطني للحزب، ورأى حجم التعاطف مع بنكيران، وحجم الدموع التي سكبت، ودرجة الخوف على وحدة الحزب، لا بد أن يتوقع من الطبيب النفسي حسابات دقيقة، ومشيا على البيض في دروب معقدة مليئة بالمفاجآت. ماذا لو كان العثماني مجرد «محطة» لامتصاص ردود الفعل على إقالة بنكيران، قبل المرور إلى الخطوة الثانية، وهي إقالة الحزب من الحكومة المقبلة، والاتجاه إلى مسار آخر مغاير تماما؟
العثماني طبيب وسوسي وفقيه… الطبيب من عادته ألا يستبعد أي احتمال وهو يفحص مريضه، والسوسي لا يضع بيضه في سلة واحدة، والفقيه، مهما بلغت درجة رخصه، لا يفرط في ثوابته.