بقلم ـ توفيق بو عشرين
“سأله: هل تعرف العلم؟ قال أعرف الزيادة فيه”.. هذا المثل يعبر جيدا عن حال سلطات فاس، وإدارة حامة مولاي يعقوب التي منعت المواطنين من ولوج الحمامات أربعة أيام متوالية، والسبب هو علمها بأن الملك محمد السادس ينوي التوجه إلى مولاي يعقوب للاستحمام، فما كان من إدارة مولاي يعقوب إلا أن أعلنت حظر الاستحمام في جميع الحمامات أربعة أيام متتالية في وجه المواطنين… الملك، عندما وصل يوم السبت إلى مدخل مولاي يعقوب، لاحظ خلوه من الزوار الذين يقصدون حماماته العصرية والتقليدية للاستشفاء، فسأل عن سبب اختفاء الزوار، فأخبروه بأن سلطات مدينة فاس، وكإجراء أمني، أعطت تعليماتها بحظر الاستحمام على الناس، فغضب الملك من هذا الشطط في استعمال السلطة، وأمر بفتح الحمامات في وجه الناس بالمجان مدة أربعة أيام، تعويضا لهم عن الضرر الذي تسبب فيه قرار السلطات، الذي لم يكن الجالس على العرش على علم به ولا أمر به ولا يمكن أن يقبله، لما فيه من عنت للناس، وجلهم يقصد مولاي يعقوب من خارج الإقليم.
الذي أمر بإغلاق الحمامات ومنع المواطنين من الاستشفاء، فعل ذلك مدفوعا بعدة مفاهيم وصور، منها المفهوم التقليدي للأمن الذي لا يجتهد لتوفير أمن ذكي لرئيس الدولة، فيعمد إلى الحلول السهلة المتمثّلة في إغلاق الطريق لساعات طويلة، أو حظر ولوج المواطنين لمرافق حيوية، أو إخلاء ساحات أو شوارع أو مناطق بكاملها. فرغم أن الملك الحالي خفف إلى حد كبير من الإجراءات الأمنية المشددة التي كانت ترافق تحرك والده، رحمه الله، فإن المسؤولين ظلوا متشبثين بما توارثوه من ثقافة وبروتوكول لا يفرق بين حماية الملك، وبين عزله عن شعبه.. بين توفير الأمن، وإثارة مشاعر الحنق… الملك فهم، منذ اليوم الأول لجلوسه على العرش، أن الشعب هو الذي يحمي الملك، وليس الأمن أو الدرك أو الجيش، وأنه إذا دخل إلى قلوب المواطنين، فإن أحدا لا يستطيع أن يخرجه منها، أو يمسه أو يؤذيه، لكن الحاشية كان لها رأي آخر، فهي تريد أن تبرر وجودها في الحاشية الملكية، وتريد أن توسع سلطاتها وامتيازاتها وحظوتها باسم الدفاع عن الملك والعرش والأسرة الحاكمة… وللأسف، نجحت حاشية محمد السادس، أحيانا، كما حاشية الحسن الثاني دائما، في عزله عن نبض الشعب، وإبعاده عن القرارات التي كانت منتظرة منه في ملفات حساسة، ولا أتحدث هنا عن اللقاءات المباشرة والعفوية بين العاهل وشعبه، فهذه مازالت مستمرة، لأن محمد السدس كثير الحركة، يجوب البلاد طولا وعرضا طيلة الأيام التي يستقر فيها بالمغرب. المقصود هو القرارات السياسية الكبيرة التي كانت لها كلفة غالية. فبقدر ما يلتقي الملك أفراد الشعب البسطاء، تندر لقاءاته مع الوزراء وزعماء الأحزاب وقادة الفكر، والشخصيات الوطنية التي لها رأي مغاير لحاشية الملك. حتى الصحافة، التي تشكل معبرا بين الحاكمين والمحكومين في البلدان الحديثة، جرت شيطنتها كلها، واعتبار كل الصحافيين قنافذ لا أملس فيها، فتقدم الحاشية الصحافيين المغاربة إلى ملك البلاد في خانتين لا ثالثة لهما؛ إما معارضون للعهد الجديد يلبسون نظارات قديمة تمنع عنهم رؤية التغيير الحاصل في عهده، وإما موالون تدفع لهم الدولة، بشكل أو آخر، ليكتبوا فن المديح والتملق والنفاق في كل مناسبة وحين، لذلك، لا داعي للاهتمام بما يكتب في صحافة هذه حالها.
روى لي المستشار الملكي الراحل، عبد الهادي بوطالب، أن القايد مرجان كانت سلطته تفوق سلطة الوزراء في دار المخزن، وكان يعترض كل داخل على الملك في الباب ويقول له: «سيدنا اليوم مقلق، إياك أن تتحدث معه في موضوع يزيد من غضبه»، وفي يوم آخر يقول: «سيدنا راشق لو، فرحان. إياك أن تثير معه موضوعا يفسد عليه فرحته»، وهكذا يصبح التواصل مع الملك في الموضوعات المهمة والحساسة شبه مستحيل، ففي كل الأحوال الإنسان إما يكون غاضبا أو فرحا، وقلما توجد منطقة وسطى بين الشعورين.
كان من أكثر الأشياء حزنا في “مذكرات ملك”، التي كتبها الصحافي الفرنسي إيريك لوران، قول الحسن الثاني إنه شعر في سنواته الأخيرة في الحكم بالعزلة، كما شعر في أولى سنوات حكمه بعدم الثقة في من حوله، بسبب خيانة من كان قريبا منه.
يحكي الأمير هشام بن عبد الله العلوي، في مذكرات “أمير منبوذ”، عن درجة الخوف التي كانت تركب المحيطين بالملك الراحل الحسن الثاني، وعن المدى الذي بلغه التملق في بطانة الحاكم، فيقول: «كان الحسن الثاني يحب مشاهدة الأفلام في جو عائلي بالقصر الملكي بالرباط، وفي إحدى المرات، بينما كان عامل السينما يركب الأجهزة لإطلاق العرض في صالة السينما بالقصر، سأله الملك: ‘‘ما هو عنوان الفيلم الذي سنشاهده هذا المساء؟’’، فرد الموظف البسيط دون تردد: ‘‘عنوان الفيلم يا سيدي هو الرصاصة الأخيرة من نصيبي’’. بعدما انطلق العرض -يقول هشام العلوي- قرأنا جميعا عنوانا آخر في بداية الشريط وكان: ‘‘الرصاصة الأخيرة من نصيبك’’. لم يجرؤ العامل البسيط على الإفصاح عن عنوان فيلم أمريكي وخشي غضب مولاه إذا هو ذكر أمامه أن العنوان الحقيقي للفيلم هو ‘‘الرصاصة الأخيرة من نصيبك’’».
خشي العامل البسيط أن يُتهم بكونه يوجه رسالة سياسية، أو فألا سيّئا إلى مولاه، لذلك تحمل الكذب، وتحمل توجيه الرصاصة الأخيرة إليه! هذا هو الجو الذي عاش فيه المقربون من الحسن الثاني.. الخوف، أما المبعدون فكانوا يعيشون الرعب من سيدهم، عكس ولده محمد السادس، الذي اختار القرب من الشعب، وفضل حب الناس على الخوف منه، إلا أنهم اليوم لا يخافون الملك بل يخافون عليه.