بقلم : توفيق بو عشرين
أزمة ميلاد الحكومة الجديدة يمكن قراءتها من زاويا عدة.. هذا البلوكاج، الذي يقف في وجه بنكيران ويمنعه من تشكيل حكومة ائتلافية، رغم تصدره الانتخابات التشريعية الأخيرة وحصوله على 125 مقعدا وعلى ظهير ملكي بتعيينه رئيسا للحكومة.. يمكن قراءته على أنه مؤشر على ضعف استيعاب بنية الحكم في المغرب للتحولات السياسية في البلاد، وضيق هذه البنية بحزب له تمثيلية واسعة وشرعية انتخابية قوية وقرار مستقل. ويمكن قراءة البلوكاج الحكومي الحالي من زاوية فشل تجربة الإصلاح الديمقراطي التي انطلقت مع الربيع المغربي، والتي توجت بدستور جديد وحكومة جديدة وبرلمان جديد، ووعد جديد بانتقال ديمقراطي هادئ. ويمكن، ثالثا، قراءة هذا البلوكاج السياسي، الذي يمنع ميلاد حكومة جديدة، رغم مرور حوالي ثلاثة أشهر على تنظيم الانتخابات، على أنه فشل لمقاربة بنكيران السياسية في ضخ الإصلاحات بالتدريج في شرايين بنية الحكم.
وضع بنكيران أربعة أهداف أمام عينيه يوم دخل إلى المشور السعيد؛ أولها أن يكسب ثقة القصر، ويطبع علاقة كانت متوترة بين الإسلاميين والمؤسسة الملكية، التي كادت تحل حزب المصباح سنة 2003. أما الهدف الثاني، فكان طموح بنكيران إلى أن يصير شريكا معتمدا في إعادة إصلاح الدولة، والمحافظة على ثوابتها، وعدم المساس بالتوازنات القائمة داخل النظام وداخل المجتمع. ثالثا، كان هم بنكيران هو مزاحمة التيار الاستئصالي، الذي كان يطالب بتهميش الإسلاميين من إدارة الدولة وزرع الشكوك حول نواياهم، ولهذا عمد إلى طمأنة «الدولة العميقة» إلى أن حزب المصباح مغربي، ويشتغل تحت مظلة إمارة المؤمنين، وأن لا خوف من مشاركته في الحكم، وأنه يقبل بالخريطة الواقعية لتوزيع السلط، حتى من خارج الدستور الجديد الذي أقر هندسة جديدة للسلط بين الجالس على العرش والجالس على كرسي رئاسة الحكومة. أما الهدف الرابع الذي سعى إليه بنكيران، فهو إدخال إصلاحات، بعضها مهم وبعضها أقل أهمية، على تدبير الشأن العام، ومحاولة استعادة التوازنات المالية للدولة، وإنصاف بعض الفئات الهشة بصرف حزمة مساعدات مادية للأرامل والطلبة والمطلقات.
هذه الأهداف الأربعة، التي حكمت رؤية رئيس الحكومة، هي التي سترسم له منهجية الاشتغال طيلة خمس سنوات، حيث اعتمد أسلوب التوافق السياسي عِوَض الحسم القانوني، مع ما يترتب على التوافق من حلول غير مرضية، وتضييع للوقت من زمن الإصلاح الضيق، واعتمد بنكيران المشاورات المستمرة مع القصر، عوض ممارسة الاختصاصات الدستورية، خوفا من المس بالثقة، واتجه رئيس الحكومة إلى الابتعاد عن مجالات اشتغال عدد من الوزارات التي كان يرى أنها تابعة، بشكل من الأشكال، للمحيط الملكي، مثل الداخلية والخارجية والأوقاف والفلاحة والتعليم والأمانة العامة للحكومة، بل إن بنكيران سعى إلى إرضاء وزراء هذه القطاعات بشكل كان يستفز الوزراء الآخرين من حزبه ومن أحزاب أخرى لا ظهر يحميها، وهذا ما دفع أخنوش، مثلا، إلى إطلاق لقب المسهّل «le facilitateur» على بنكيران، وَيَا للمفارقة، فقد تحول أخنوش إلى أكبر معسر لميلاد الحكومة…
التوافق، عدم الاحتكام إلى الدستور، التشاور الدائم، الابتعاد عن مجالات الاحتكاك بالسلطة، الصبر في «المنشط والمكره»، الابتعاد عن الإصلاحات الديمقراطية الجوهرية، وفي مقدمتها تنزيل الدستور في قوانين تنظيمية متقدمة، وفاء لشعار التأويل الديمقراطي للوثيقة الدستورية، السكوت عن انتهاكات حقوق الإنسان وحرية التعبير والتنظيم والتظاهر، ومهادنة قلاع الفساد الكبرى.
بنكيران كان يعرف، بحاسته السياسية وذكائه البرغماتي، أنه يقدم تنازلات مؤلمة، وأنه إذا فشلت خطته الإصلاحية، فإنه سيؤدي ثمنا كبيرا، لهذا اعتمد ثلاثة تكتيكات للتخفيف من خسائره، ولكسب وقت جديد للإصلاحات التي كان يرى أنها تشبه كرة الثلج ستكبر مع الوقت والتراكم. هذه التكتيكات هي: تقوية البناء الحزبي، وعدم التفريط في التنظيم والآلة الانتخابية، عكس ما فعله اليوسفي. ثانيا، التواصل القوي مع الشعب، ومصارحته بالحقائق، وكسب ثقته، عكس ما فعله الفاسي. ثالثا، التعويض بالقول عن مجابهة السلطوية بالفعل، ومحاولة استعمال قاموس سياسي جديد يوصل المعاني العميقة لاختلالات الدولة بأقل كلفة سياسية.
في الساعات الأولى من صباح الثامن من أكتوبر، خرج عبد الإله بنكيران يعلن بنفسه نتائج حزبه عندما تلكأت الداخلية في إعلان النتائج، وبعد ساعة خرج حصاد يعلن فوز البيجيدي بالمرتبة الأولى، وفي الوقت ذاته يقطر الشمع عليه باعتباره حزبا لا يثق في الدولة… كان هذا هو الحكم على خمس سنوات من سعي بنكيران إلى كسب الثقة. هنا انتقلت الأطراف كلها إلى حقل صراع جديد، وما نراه من بلوكاج وشد حبل هو النتيجة الطبيعية للأسلوب الجديد لإدارة العلاقة.. الباقي تفاصيل وضباب وخلط أوراق.
المصدر : جريدة اليوم24