توفيق بوعشرين
للمرة الثانية يزور الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولند، بلادنا، للمرة الثانية، منذ وصوله إلى قصر الإليزيه سنة 2012. هذه المرة، استُقبل في طنجة عاصمة الشمال من قبل الملك محمد السادس، حيث حضرت الحفاوة الكبيرة بالضيف المميز، لكن مع الحفاوة هناك، دائما، شريط الذكريات التي تطفو على السطح في مثل هذه المناسبات. ومن هذه الذكريات السيئة، وقف اتفاقية التعاون القضائي بين باريس والرباط لمدة سنة كاملة في أسوأ أزمة دبلوماسية تعرفها العلاقات بين فرنسا والمغرب، منذ اختطاف واغتيال المعارض الكبير المهدي بنبركة في باريس سنة 1965، حيث غضب الجنرال دوغول أيما غضب، وشعر بالإهانة أن يُخطف مناضل أممي كبير في بلاده دون أن يكون على اطلاع…
فرنسوا هولاند، رئيس بدون كاريزما، وهو نفسه خاض حملة انتخابية ضد ساركوزي تحت عنوان: رئيس عادي ( président normal)، لكن فرنسا الجمهورية لم تنس تاريخها الملكي. دائما ما سيصوت الفرنسيون على رئيس ليحكمهم شبه ملك بصلاحيات واسعة، خاصة إذا كان حزب رئيس الجمهورية يملك أغلبية في البرلمان، ولا يحتاج إلى تعايش صعب مع الحزب الغريم. الرئيس الاشتراكي هولاند انتقم للفرنسيين من ألاعيب ساركوزي، لكنه لم يملء قصر الإليزيه كله، ولهذا فرط في جزء من علاقات الجمهورية بحلفائها وأصدقائها ومستعمراتها السابقة.
من هذه الزاوية يمكن قراءة طول الأزمة التي عصفت بعلاقات البلدين لسنة كاملة نتيجة استدعاء عبد اللطيف الحموشي، المدير العام للأمن والاستخبارات، إلى التحقيق بدعوى وجود شكاية تزعم وقوفه خلف تعذيب فرنسيين من أصل مغربي في معتقل تمارة…
لو كان ساكوزي أو شيراك أو حتى ميتران في السلطة، لما استغرق حل هذه المشكلة سوى ساعات أو أيام على أكبر تقدير، لكن هولاند، ولأنه رئيس عادي، ولأن (مزاجه جمهوري) أكثر من اللازم، أمضى سنة كاملة لكي يجد حلا لهذه المشكلة، التي لم يحلها في الواقع سوى الإخوان كواشي، اللذين هجما على صحيفة (شارلي إيبدو)، وقتلا بدم بارد نصف هيأة تحريرها.
هنا شعرت الأجهزة الأمنية في فرنسا بالحاجة إلى التعاون الأمني مع الرباط التي استثمرت مبكرا في سياسة مكافحة الإرهاب، ووضعت إمكانات بشرية ومادية ولوجستية كبيرة في يد عبد اللطيف الحموشي، الذي صار عنوانا لنجاح الخطط الاستباقية لتفكيك خلايا الإرهاب وتعقبها في الداخل والخارج.
الأمن، إذن، من قاد هولاند للمصالحة مع الرباط، لا الاقتصاد ولا السياسة ولا الثقافة ولا اللغة …هذه هي الحقيقة المؤلمة في علاقتنا بفرنسا اليوم، علاقة ظنها الحالمون والرومنسيون من إخواننا الفرنكوفونيين أنها تاريخية وعميقة، بحيث لا تؤثر فيها الرياح المقبلة من كل اتجاه..
وددت لو لم يكن في البرنامج الاحتفالي بالضيف الكبير زيارة إلى مصنع صيانة القطار الفائق السرعة TGV في طنجة، ووددت لو جرى استبعاد الشركة الفرنسية (ألستوم) من برنامج الزيارة، ومن خلفية الصور التي التقطت للملك وضيفه وباقي المشاركين، لماذا؟ لأن شركة (ألستوم) صاحبة سمعة سيئة في أوساط الصناعة الأوروبية. ولأن ألستوم ثانيا، هي من أخذت مشروع بناء TGV بدون عروض مناقصة، وبدون شفافية، وبدون تنافس حول الأسعار والجودة وآجال الإنجاز، وتقريبا بدون دفتر تحملات.
وهذا معناه أنها وسعت من هامش ربحها أكثر من المعقول، وأكثر من سعر السوق مادامت الصفقة لم تدخل إلى السوق أصلا، وهذا ما خلق لنا متاعب كثيرة. ليس أولها رفض البنك الأوروبي للاستثمار إعطاء المغرب قروضا لإنجاز المشروع، لأن الصفقة مع (ألستوم) كانت تحت الطاولة، وليس فوقها كما قال نائب رئيس البنك حينها..
مشروع القطار فائق السرعة سيكلف أكثر من ثلاثة مليارات أورو، أي ضعف كلفة بناء الميناء المتوسطي في طنجة، ولهذا كان يجب أن يحظى بدراسات أعمق ونقاش أوسع. للأسف، لم يتم، لأن الثعلب ساركوزي عرف كيف يجعل TGV مقابلا سياسيا لرفض المغرب شراء طائرات «رافال» الفرنسية، والاتجاه إلى تفضيل f16، فكان TGV هو الثمن.
نعم. بعد ذلك، جرى إلباس المشروع رداء مغربيا، وقيل إن البلاد تحتاجه، وإنه سيكون علامة تجارية لبيع صورة المغرب في الأوساط الاستثمارية، باعتبار المغرب هو البلد الإفريقي الوحيد الذي يتوفر على وسيلة النقل هذه، وإن الجدوى الاقتصادية يجب أن تُحسب من هذه الزاوية، وليس من شبّاك محطات القطار وعدد التذاكر والربح والخسارة في هذا المشروع…
أيا يكن الأمر، بلادنا تحتاج إلى مراجعة أدائها الدبلوماسي مع الأصدقاء، أولا، قبل الأعداء. ألا يقول الدعاء المشهور: «اللهم أعني على أصدقائي. أما أعدائي، فأنا كفيل بهم».