وتفرّق الرفاق

وتفرّق الرفاق!

المغرب الرياضي  -

وتفرّق الرفاق

جمال بودومة

في بداية التسعينيات كنا طلابا ساذجين، نعيش الحاضر بالأسود ونلون المستقبل بالوردي. مثل محاربين بلا أسلحة، يتعاركون على أكثر من جبهة، ويقتلهم الجوع والبرد وتجاهل الفتيات. من الطبقات السفلى صعدنا لإكمال دراساتنا العليا، رصيدنا منحة بئيسة نتقاضاها كل ثلاثة أشهر ونبددها في ثلاثة أيام، نتدرب على الحرية في كل أشكالها: ندخّن سجائرنا الأولى في الساحة، نمشي يدا في يد مع الفتاة التي نحب، نردد الشعارات، نرتجل التظاهرات، نجمع الحلقيّات ونتناقش بحدة كأننا نقرر في مصير الكوْن…
كانت الجامعة المغربية، مثل العالم العربي، مقسمة إلى معسكرين: «الرفاق» و»الإخوان»، وكان الصراع بين «القاعديين» وطلاب «العدل والإحسان» و»التوحيد والإصلاح» دخل فصوله الأكثر دموية. كلا الطرفين لا يرى عن العنف بديلا لطرد خصمه بعيدا عن هذا المكان الذي يسمونه بكثير من الخشوع «الحرم الجامعي». كانا وجهين لعملة واحدة: معسكر يدعو إلى «الجهاد ضد أعداء الإسلام»، وآخر ينادي بـ»العنف الثوري ضد الظلاميين»… تطرف على اليمين وتطرف على اليسار. كان رفاق النهج القاعدي ينقسمون إلى فصائل بلا حصر، كلّ يوم يولد تيار جديد: الكرّاس، البرنامج المرحلي، الممانعون، السيخ، لْگلاگلية… لا أعرف أين كانوا يعثرون على هذه التسميات. يتناقشون ويتهارشون بعنف داخل الحلقيّات، مثل الأعداء، ويطلقون على بقية التيارات بغير قليل من الازدراء: «الفصائل الإصلاحية»، لأنها تريد إصلاح «نظام رجعي» مكانه الطبيعي «مزبلة التاريخ»، تلك «الزبّالة» التي كان «المناضلون» يرمون فيها كل يوم ركاما من الأنظمة والأشخاص والمبادئ والقيم، بغير قليل من الخفة والنزق. كانت أحلام «القاعديين» دائما مضرجة بالدماء، لا يقنعون بأقل من «إسقاط النظام» وتدمير «التحالف الرأسمالي الإمبريالي»  و»الكمبرادور» و»الرجعيين» و»الظلاميين» عن طريق «العنف الثوري»، كي يرفعوا في النهاية راية رسموا عليها «منجلا ومطرقة» ويشيدوا على أنقاض الجميع تلك اليوتوبيا الرهيبة التي تسمى: «ديكتاتورية البروليتاريا». كان العالم بالأبيض والأسود، بطيئا على نحو لا يصدق. الحلقيات طويلة والنقاشات لا تنتهي. الحي الجامعي الذي فتح غرفه في وجه الطلاب حديثا بمدينة مكناس، أصبح بسرعة ملاذا للرفاق الهاربين من فاس المجاورة. «القاعديون» فروا من العاصمة العلمية، بعد سقوط ما كان يعرف بـ»جمهورية ظهر المهراز» بين أيدي فيالق «العدل والإحسان» وحلفائهم من «الطلبة التجديديين»، المنبثقين عن حركة «التوحيد والإصلاح». في أكتوبر 1991 حشدت الجماعة طلابها في جامعات المملكة، وشكلوا ميليشيات مسلحة بالسلاسل والعصي والسكاكين، وشنوا هجوما دمويا على اليساريين في جامعة ظهر المهراز. مواجهة دامية، انتهت بإخراج القاعديين من معقلهم التاريخي، وأدت إلى عدد كبير من الاعتقالات، واندلاع مواجهات مفتوحة في كل الجامعات المغربية. كنا ننظر إلى ما يجري من أسفل سذاجتنا، ونعتقد أن العالم سيتغير بالسكاكين والعصي والشعارات والكوفيات، رغم أن كثيرين لم يكونوا راضين أصلا عن وجودهم داخل الجامعة، بعد أن بلغت سمعتها حدا كبيرا من التردي، مع استفحال البطالة وانقراض «المستقبل» في «مملكة الحسن الثاني». غرقت الجامعة في مستنقع العنف. ذات يوم، دلف حشد من الطلاب الغاضبين إلى المدرج، وانتزعوا الميكروفون من أستاذ «الجينيتك» كي يخبرونا بأن أحد «الرفاق» قتل في فاس على أيدي «العصابات الظلامية». كان اسمه ثلاثيا: محمد بنعيسى آيت الجيد…  في تلك التسعينيات الدموية كان الطالب، بدل الاعتناء بالدروس والمحاضرات، يعتني بذقنه ويطلق لحية و»شعكوكة»، يضع كوفية على عنقه وسكينا في جيبه ويأتي إلى الكلية. أرسلتنا عائلاتنا لتحصيل العلم، و»حصلنا» وسط ميليشيات تتجول بالسلاسل والعصي أمام مدرجات فارغة إلا من بضعة طلاب. غادرنا المدرّج، نحن أيضا، والتحقنا بالحلقيات نصرخ ونحلم: «الجماهير ثوري ثوري على النظام الديكتاتوري»، «ثورة ثورة كالبركان»… كانت الجامعة ساحة حرب حقيقية، بجثث ودماء وأسلحة. أذكر ذلك الطالب الذي كان يجلس قربي في المدرج، بدل أن يخرج قلما من محفظته أخرج سكينا… فأفزع الصفّ بكامله. مرّت السنوات وماتت الشعارات وتفرّق «الرفاق»، منهم من ذهب إلى الحجّ، ومنهم من صار ضابطا محترما في المخابرات، ومنهم من تحوّل من متعهد مظاهرات إلى متعهد حفلات، ومنهم من خلط بين الأصالة والمعاصرة وأصبح مستشارا أو نائبا في البرلمان… وحدها روح آيت الجيد بقيت معلقة على حبال التاريخ، تنظر إلينا جميعا بغضب.

GMT 08:06 2019 السبت ,15 حزيران / يونيو

طوق النجاة لمباحثات الخرطوم

GMT 08:03 2019 السبت ,15 حزيران / يونيو

من قراءات الأسبوع

GMT 07:46 2019 السبت ,15 حزيران / يونيو

كيف نتصدى لإيران في الخليج؟

GMT 07:44 2019 السبت ,15 حزيران / يونيو

عيون وآذان (محمد بن زايد يعرف مصالح الإمارات)

GMT 07:42 2019 السبت ,15 حزيران / يونيو

قراءة نيابية في الموازنة قبل المجلس الدستوري

GMT 07:40 2019 الجمعة ,14 حزيران / يونيو

الإيماءات الدبلوماسية لن تحل المشكلة الإيرانية

GMT 07:38 2019 الجمعة ,14 حزيران / يونيو

عيون وآذان (إرهاب إسرائيلي يؤيده ترامب)

GMT 07:36 2019 الجمعة ,14 حزيران / يونيو

سعد الحريري ورفض الأمر الواقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وتفرّق الرفاق وتفرّق الرفاق



GMT 03:37 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

عبايات "دولتشي آند غابانا" لخريف وشتاء 2019
المغرب الرياضي  - عبايات

GMT 05:47 2023 الأحد ,03 أيلول / سبتمبر

أفضل 50 فندقاً حول العالم لعام 2023
المغرب الرياضي  - أفضل 50 فندقاً حول العالم لعام 2023

GMT 01:32 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
المغرب الرياضي  - 7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال

GMT 11:17 2012 الإثنين ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الخطيب يؤكد عدم تخليه عن حمدي في محنته خلال حفل الرواد

GMT 22:56 2017 الإثنين ,28 آب / أغسطس

البزغودي لاعب الجيش يخضع لفحوصات طبية

GMT 15:33 2018 الثلاثاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

أولاس يشيد بفريقه قبل مواجهة شاختار دونيتسك الأوكراني

GMT 10:19 2022 الجمعة ,23 كانون الأول / ديسمبر

وليد الركراكي يرُد على منتقديه بسبب عبد الرزاق حمدالله

GMT 05:44 2022 السبت ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد النني يُهدي الشيخ مشاري راشد العفاسي قميص أرسنال

GMT 22:45 2022 الإثنين ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لاعبات غولف «أرامكو» في مواجهة الإعلام بجدة

GMT 08:27 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

ليفربول يتحدى مانشستر سيتي اليوم في الدوري الإنكليزي

GMT 21:10 2022 الأحد ,22 أيار / مايو

كريم بنزيمة يثير الجدل بعد قرار مبابي
 
moroccosports

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

moroccosports moroccosports moroccosports moroccosports
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib