«داعش» كوريث للنظام العربي مصادرة الحاضر واغتيال المستقبل

«داعش» كوريث للنظام العربي: مصادرة الحاضر واغتيال المستقبل

المغرب الرياضي  -

«داعش» كوريث للنظام العربي مصادرة الحاضر واغتيال المستقبل

طلال سلمان


يعيش المواطن العربي في المشرق خاصة، وعلى امتداد مساحة الوطن العربي الكبير، عموماً، حالة من الذهول وهو يشهد اغتيال مستقبله بعد مصادرة حاضره.
تتهاوى «الدولة» في العديد من الأقطار العربية، ولا سيما في المشرق، وبينها تلك التي كتبت الصفحات الأولى في التاريخ الإنساني، أو حملت راية الإسلام لتنشره في البلاد البعيدة. وتتمزق المجتمعات فيها عائدة إلى صورتها قبل الدولة: مذاهب وطوائف تتنازع الشعار الإسلامي، وقبائل وعشائر وبطوناً وأفخاذاً وعائلات ودهماء، خصوصاً أن الأحزاب السياسية قد تمّزقت وتوزعت فرقاً، بينها من استوعبته أجهزة المخابرات وبينها من ذهب إلى التقاعد المبكر يأساً من الحاضر وهرباً من المسؤولية عن المستقبل، في حين اندفع القسم الأخير عائداً إلى «تحت الأرض» بأمل إنجاز «انقلاب» يصحح المسيرة ويحقق الأحلام.
اغتالت السلطة الدولة بمؤسساتها كافة باسم الحزب. لكن الصراع على السلطة ضرب وحدة الحزب فتشقق وتفرع أحزاباً ومنظمات سرية. وأنهكت الصراعات الدولة، خصوصاً وقد وصلت إلى الجيش والمؤسسات الأمنية، فصار بعضها في عهدة «الرئيس القائد»، له الحظوة في الامتيازات والترقيات والسيطرة على المواقع الحساسة، بينما أُهمل البعض الآخر فصار مجرد أعداد من المجندين إجبارياً المرميين عند الأطراف بعيداً عن مفاتيح السلطة. صارت «القوة الضاربة» في حراسة مركز السلطة، أي الرئاسة، لها التجهيزات الحديثة في السلاح والاتصال، ولها الموازنات المحترمة والامتيازات، بينما الكتلة العظمى من القوات المسلحة تعاني من إهمال متعمد وسوء معاملة يكاد يجعلها في مرتبة الخدم.
اختُصر «الشعب» بشخص «القائد»، ثم أضفيت القداسة على «القائد» فرُفع فوق البشر، فصار مجسداً للذات الإلهية، لا يطاله النقد ولا هو يقارب الخطأ. ثم إنه لا يحول ولا يزول بل هو باق ومستمر، متجدد بفرادته، يعرف كل شيء عن كل الناس في كل الأمكنة. هو الوطن والدولة، الجيش والشعب، المعلم والعالم بالغيب والذي على كل شيء قدير.
وكان على «الشعب» أن يذوب، بل أن يذيب نفسه في «القائد»، تاركاً له حق القرار في أي أمر وكل أمر، بدءاً من التموين وتوفير فرص العمل إلى مشاريع التنمية واستثمار موارد البلاد، وصولاً إلى مواجهة الأعداء أو من يراهم أعداء، بقرار الحرب، سواء أكانوا في الداخل أم يستعدون في المحيط القريب لاقتحام الداخل.
كان «الشعب» يعرف أن تنظيمات أصولية تنمو وتتكاثر في مختلف أنحاء البلاد، لا سيما في سوريا والعراق وبعض الجزيرة والخليج، وأنها تضرب على وتر المظلومية الطائفية، والاضطهاد المذهبي. وكان يفترض أن النظام يعرف تفاصيل التفاصيل، وأنه لا بد سيتحرك في اللحظة المناسبة، وأنه سيستدعيه ليشارك في المواجهة لاستنقاذ «الدولة العلمانية» بشعاراتها الجليلة: الديموقراطية ووحدة الشعب بمختلف مكوناته، انطلاقاً من أن الدين لله والوطن للجميع.
وحين خرجت إلى السطح تنظيمات مسلحة متفرعة عن «القاعدة» مثل «جبهة النصرة»، كان «الشعب» يعرف أن ثمة تنظيماً أقوى وأخطر يتحرك تحت الأرض ويستعد لأن يباغت النظام سواء في سوريا أو في العراق أو في جهات أخرى في المغرب العربي وبعض افريقيا. وكان يسمع ويرى تصرفات لا يفهمها ولكنه ينسبها إلى عبقرية أجهزة المخابرات في توظيف التنظيمات الأصولية بعضها ضد البعض الآخر، إلى أن وقعت الكارثة في الموصل: لقد خرج «داعش» من تحت الأرض بقوة مهولة، اجتازت الفيافي والقفار على امتداد مئات الكيلومترات، من دون أن تراه أجهزة المخابرات المختلفة، عربية ودولية، ومن دون أن تقاومه آلاف مؤلفة من الجنود على امتداد طريقه الطويل، ولا في العاصمة الثانية للعراق بملايين سكانها والعديد من الفرق العسكرية الموجودة فيها ومن حولها، بل استسلم الجميع في حين هرب القادة تاركين خلفهم أسلحتهم الثقيلة من دبابات ومدفعية وصواريخ، إضافة إلى خزينة الدولة وفيها بضع مئات من ملايين الدولارات.
ومن الطبيعي أن يصيب الذهول هذا المواطن الذي كان يفترض إلى ما قبل سنوات قليلة أنه ـ أقله ـ في أمان (بالمعنى العام)، وأن في المشرق «دولة» مهابة تتباهى بقوتها فتجتاح بها دولاً أخرى بعضها أكبر منها (مثل تجربة صدام حسين في حربه على ايران، قبل أن يقامر بجيشه ووطنه في غزوة الكويت)، ودولة أخرى ذات رصيد محترم في الاستقرار وحكمة القيادة، بحيث تستدعى لنجدة دولة شقيقة ضربها زلزال الحرب الأهلية (تجربة سوريا في لبنان). فإذا هو الآن يفتقد وجود هاتين الدولتين بعدما كانتا «المركز» في المشرق العربي ومركز القرار.
عليه الآن أن يتأمل الخريطة جيداً: لقد اقتطع «داعش» لدولته أكثر من ثلث مساحة الجمهورية العراقية وأكثر من نصف مساحة الجمهورية العربية السورية متجاوزاً الحدود والسدود وغارات طيران التحالف التي تخترق طائراتها الفضاء على مدار الساعة، من دون أن تتغير الوقائع على الأرض. بل إن المساحة التي تسيطر عليها قوات «داعش» لا تفتأ تتعاظم متمددة من حدود تركيا إلى حدود الأردن، مقتربة في العراق من العاصمة بغداد، ومقتربة في سوريا من العاصمة دمشق، بغير أن تلقى المقاومة المفترضة، والتي يسهل تبريرها بالإشارة إلى أن جيش العراق مفكك وما زالت إعادة بنائه تواجه مصاعب شتى، أخطرها الانشقاق الطائفي والمذهبي الذي ضرب وحدة العراق. وأن جيش سوريا منهَك بعد أربع سنوات ونيف من المواجهات والمعارك المفتوحة بامتداد الأرض السورية، مع معارضات شتى مدعومة بالمال والرجال والسلاح من تركيا وبعض أقطار الخليج العربي، ومعززة بـ «مجاهدين» وجدوا من يستدعيهم فيجمعهم ويدربهم ويمول تسليحهم ثم يدفع بهم عبر حدود تركيا أو الأردن (وحتى إسرائيل) إلى مواجهات تتوسع جبهاتها باستمرار لتشتيت قوة الجيش السوري وإنهاكه.
أخطر من تهاوي الدول في المشرق العربي تمزّق المجتمعات فيها، بفعل فاعل، وعودتها إلى صورتها الأولى قبل الدولة: طوائف ومذاهب تنتسب، في الأصل إلى دين واحد، وأقليات طائفية وعرقية وقبائل وعشائر ببطون وأفخاذ، يدفعها الخوف من المجهول الذي بات قائماً على الأرض ومعروفاً، إلى الاهتمام بمصيرها بعيداً عن الوطن ودولته والأمة وهويتها ورايات عزتها.
ويتبدى «داعش» الآن غولاً أو وحشاً أسطورياً هائلاً قادراً على ابتلاع الدول التي أنهكتها أنظمتها بالحروب أو ببعدها عن شعبها ومطامحه. و «داعش» يكاد يكون «في هذه اللحظة»، أكبر دولة عربية، في مساحتها على الأقل التي تمتد من حدود العراق مع إيران إلى قلب سوريا، غير بعيد عن دمشق، مع تمدد إلى الحدود مع تركيا شمالاً. كذلك تتبدى وكأنها «أقوى دولة» في هذه المنطقة العربية، في تماسكها ووحدة قرارها وغناها، بعد نهبها الموصل وسيطرتها على العديد من حقول النفط في بعض العراق وسوريا.
ومما يزيد في قوة «داعش»، قبل التساؤل عن مواقف الدول، عربية بعنوان السعودية وأقطار الخليج، وأجنبية بالعنوان الأميركي المباشر، هذا الصراع المذهبي الذي تنفخ فيه جهات شتى، بعضها أبناء شرعيون للأنظمة المعنية، في سوريا والعراق، والذي فتح الطريق أمام غزوات «داعش» ومكّنه من احتلال مساحات بحجم دولة تزيد مساحة عن سوريا ذاتها او عن العراق، خصوصاً إذا ما استثنينا منه «دولة البرازاني» الكردية في الشمال.
إن الصراعات المذهبية، ظاهرة أو مكتومة، كانت أعظم سند لغزوات «داعش». فالفتنة تفتح الطريق أمام جحافله، وغفلة السلطة المشغولة بأمن النظام أكثر من اهتمامها بأمن البلاد وأهلها جميعاً، توفر له حرية الحركة واجتياح المزيد من الأراضي (حتى لو كانت بيداء وصحارى).
لقد مكن التهاون والغفلة أو الإهمال أو القصور أو الاعتماد على «التحالف الدولي» «داعش» من احتلال آلاف الكيلومترات من أراضي العراق وسوريا بلا قتال.
وبعد سقوط المناطق بمدنها والقرى وأريافها، لم ينتبه أحد إلا بعد سقوط تدمر، درة الحضارة ومهد التقدم الإنساني بملكتها المستنيرة «زنوبيا»، فهبّ الجميع يرثي الآثار ـ الشاهدة على التاريخ المجيد، في حين ذهب آخرون إلى التذكير بالسجن الشهير فيها للمحكومين أحكاماً بالسجن لمدد طويلة.
.. والنتيجة: لقد ضاعت البلاد، وحقق «داعش» بعض شعاره في «الدولة الإسلامية في العراق والشام»... وصارت استعادتها، أقلّه في المدى المنظور، مهمة في غاية الصعوبة، قد تضطر الأنظمة إلى طلب النجدة من جيوش الاحتلال الأجنبي، بالعنوان الأميركي الآن.
لقد عجزنا عن حماية الحاضر، وها إن المستقبل يكاد يضيع منا، بينما عصابات الإرهاب الآتية من الجاهلية تعيدنا إليها وتفرض علينا أن نعيش خارج حركة تاريخ التقدم الإنساني.
والخوف على المستقبل أقسى إيلاماً من الواقع الحاضر المتردّي: لا قائد ولا قيادة. لا إجماع ولا توافق شعبياً. السلطة المتهاوية في مكان والشعب في مكان آخر، والمسافة بينهما شاسعة بحيث يصعب تلاقيهما مجدداً.
مع ذلك، لا بد من استيلاد الأمل، الأمل بالشعب ووعيه وحرصه على وطنه وعلى مستقبل أبنائه فيه.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية.

 

GMT 08:06 2019 السبت ,15 حزيران / يونيو

طوق النجاة لمباحثات الخرطوم

GMT 08:03 2019 السبت ,15 حزيران / يونيو

من قراءات الأسبوع

GMT 07:46 2019 السبت ,15 حزيران / يونيو

كيف نتصدى لإيران في الخليج؟

GMT 07:44 2019 السبت ,15 حزيران / يونيو

عيون وآذان (محمد بن زايد يعرف مصالح الإمارات)

GMT 07:42 2019 السبت ,15 حزيران / يونيو

قراءة نيابية في الموازنة قبل المجلس الدستوري

GMT 07:40 2019 الجمعة ,14 حزيران / يونيو

الإيماءات الدبلوماسية لن تحل المشكلة الإيرانية

GMT 07:38 2019 الجمعة ,14 حزيران / يونيو

عيون وآذان (إرهاب إسرائيلي يؤيده ترامب)

GMT 07:36 2019 الجمعة ,14 حزيران / يونيو

سعد الحريري ورفض الأمر الواقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«داعش» كوريث للنظام العربي مصادرة الحاضر واغتيال المستقبل «داعش» كوريث للنظام العربي مصادرة الحاضر واغتيال المستقبل



GMT 03:37 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

عبايات "دولتشي آند غابانا" لخريف وشتاء 2019
المغرب الرياضي  - عبايات

GMT 05:47 2023 الأحد ,03 أيلول / سبتمبر

أفضل 50 فندقاً حول العالم لعام 2023
المغرب الرياضي  - أفضل 50 فندقاً حول العالم لعام 2023

GMT 01:32 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
المغرب الرياضي  - 7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال

GMT 11:17 2012 الإثنين ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الخطيب يؤكد عدم تخليه عن حمدي في محنته خلال حفل الرواد

GMT 22:56 2017 الإثنين ,28 آب / أغسطس

البزغودي لاعب الجيش يخضع لفحوصات طبية

GMT 15:33 2018 الثلاثاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

أولاس يشيد بفريقه قبل مواجهة شاختار دونيتسك الأوكراني

GMT 10:19 2022 الجمعة ,23 كانون الأول / ديسمبر

وليد الركراكي يرُد على منتقديه بسبب عبد الرزاق حمدالله

GMT 05:44 2022 السبت ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد النني يُهدي الشيخ مشاري راشد العفاسي قميص أرسنال

GMT 22:45 2022 الإثنين ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لاعبات غولف «أرامكو» في مواجهة الإعلام بجدة

GMT 08:27 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

ليفربول يتحدى مانشستر سيتي اليوم في الدوري الإنكليزي

GMT 21:10 2022 الأحد ,22 أيار / مايو

كريم بنزيمة يثير الجدل بعد قرار مبابي
 
moroccosports

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

moroccosports moroccosports moroccosports moroccosports
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib