بقلم : عريب الرنتاوي
في الثالث عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 1990، غادر الجنرال ميشيل عون قصر بعبدا، بعد معارك ضارية مع قوات النظام السوري، استخدم فيها مختلف أنواع الأسلحة، بما فيها سلاح الجو السوري … الزحف البشري الذي أحاط بالقصر دفاعاً عن الجنرال، لم يوفر له الحماية الكفاية في مواجهة إجماع دولي قضى في حينه باستئصال “ظاهرة عون”، وتقديم رأس الجنرال على مذبح “اتفاق الطائف”، والأهم على طبق من فضة للأسد الأب، الذي كان يتحضر لإرسال قواته إلى “حفر الباطن” للمشاركة في “عاصفة الصحراء” بقيادة جورج بوش (الأب أيضاً)، لإخراج الجيش العراقي من الكويت.
طوال أزيد من عامين قضاها رئيساً للحكومة العسكرية التي شكلها الرئيس أمين الجميل، بعد أن أخفق البرلمان اللبناني في انتخاب رئيس جديد، عاش لبنان في ظل حكومتين، واحدة عسكرية برئاسة الجنرال، قاطعها المسلمون، وثانية مدنية برئاسة سليم الحص قاطعها المسيحيون… خلال هذا الفترة، ألهب الجنرال مشاعر المسيحيين وكثرة من المسلمين، بشعاراته الصادحة بإعادة بناء الدولة العادلة والجيش القوي، وتصفية الميليشيات، وبدا في نظر كثير من اللبنانيين في صورة “المستبد العادل” عندما شرع في تصفية ميليشيا القوات اللبنانية في حينه، فيما سيعرف لاحقاً باسم حرب الإلغاء.
خلال فترة “الفراغ الرئاسي” تلك، تابعت المشهد اللبناني كصحفي من العاصمة القبرصية نيقوسيا، حيث كنت أدير مؤسسة للأبحاث والصحافة والنشر … وأذكر أنني كنت على اتصال بالقصر الجمهوري في بعبداً بمعدل أسبوعي، وأحياناً بصورة يومية، لمواكبة التطورات، ولقد توفر للعماد عون في تلك الأزمنة، مستشاراً إعلامياً، أحسب أنه كان ضابطاً في الجيش، ما زالت أذكر اسمه: يوسف الأندري، وكان شديد التعاون مع الصحافة والمراسلين، ولم يبخل علينا بالمعلومات والتصريحات، وأحياناً كان يحيلنا لأخذ تصريحات خاصة من الجنرال من “قبو” القصر، ودائماً عبر الهاتف، إذ لم ألتق يوماً بأي من الرجلين.
وشجعني على المضي إلى أبعد مدى في التغطية، أن صحيفة الشرق القطرية التي كنت أراسلها، وقف على رئاسة تحريرها في تلك الحقبة، صحفي نشط وشجاع وطموح، اسمه ناصر العثمان، كلما كنت أوافيه بالتقارير المفصلة والمثيرة، كلما طلب المزيد، ولطالما أفرد الرجل صدر الصفحة الأولى لمانشتات عريضة، كانت مستمدة من رسائلي عن لبنان.
لم تدهشني في ظاهرة الجنرال في تلك الفترة، حالة الالتفات الشعبي المحيطة به، والعابرة لخطوط الطوائف والمذاهب، في بلد لم يكن قد ودّع حربه الأهلية المديدة بعد، يتوق شعبه للدولة والأمن والاستقرار حتى وإن جاءت على يد “جنرال مستبد وعادل”، بقدر ما أثار فضول الصحفي الشاب عندي، حراك التحالفات السريع وتبدل المواقف الذي لا يهدأ، ولطالما صدمت بكثير من المعلومات والمعطيات التي رافقت تحصن الجنرال في قصر بعبدا.
فوجئت بأن ثمة صلة عميقة بين الجنرال والزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وأن الأول سهل للثاني، إعادة قوات وأسلحة إلى بعض المخيمات الفلسطينية، بعد خروجها الثاني من لبنان في غضون أقل من عامين، الأول على يد شارون (أيلول 1982)والثاني على يد الأسد الابن (كانون الأول 1983)، وأن الثاني– عرفات – لم يبخل في تقديم مختلف أنواع العون للأول، من منطلق الشراكة في مواجهة التهديد السوري المشترك … عرفات كان غادر قبل أقبل من خمس سنوات، ملاذه الأخير في طرابلس ومخيمات الشمال، تحت ضغط الدبابات وفوهات المدافع السورية … والعماد يخوض معركة حياة أو موت مع الأسد المتربص في دمشق.
يومها أيضاً، دخل العراق بزعامة صدام حسين على خط الأزمة اللبنانية، من بوابة دعم الجنرال، بعد أن بلغت علاقاته بالأسد الأب، أسفل درك، إثر انهيار ميثاق العمل القومي، وتفاقم الاتهامات المتبادلة بالتآمر لقلب نظام الحكم … وأذكر أن الجنرال هدد في أحد تصريحات من “قبو القصر” بأنه سيقصف دمشق بصواريخ “فروغ الروسية” التي قيل إنه حصل عليها من صدام حسين بوساطة ياسر عرفات، في حال شن سلاح الجو السوري هجمات على قصر بعبدا المسيج بطوفان من البشر، المقيمين إقامة شبه دائمة في محيطه، وتلكم كانت واحدة من المفاجآت التي لم أتمكن من هضمها في تلك الأيام.
خرج الجنرال من القصر رفقة مساعديه، إلى السفارة الفرنسية، ليمكث فيها عدة أشهر، قبل أن يغادر إلى منفاه الباريسي، ليعود إلى لبنان بعد استشهاد رئيس حكومته الراحل رفيق الحريري، وليخوض الانتخابات كالإعصار، أو “التسونامي” على حد وصف وليد جنبلاط، واضعاً نصب عينيه، هدف العودة إلى القصر الذي أخرج منه عنوة، وها هو يقترب من تحقيق حلمه وهو في الرابعة والثمانين من عمره، حيث لم يعد يفصله عن مقعد “فخامة الرئيس” سوى أيام قلائل.
بين خروجه من “بعبدا” في 13 أكتوبر 1990، وعودته إليه في 31 أكتوبر 2016 كما هو منتظر، جرت مياه كثيرة، في أنهار لبنان والإقليم وتحت جسورها … تصالح الجنرال مع خصمه السوري اللدود بعد انسحاب قواته من لبنان، وعقد تحالفاً مع حزب الله (تفاهمات مار مخايل)، وثبت على مواقفه برغم قساوة الضغوط واجتاز اختبارات حرب تموز والأزمة السورية وقتال الحزب إلى جانب نظام الأسد، تصالح مع خصمة المحلي الألد: سمير جعجع، ووقع معه “اتفاق معراب” الذي سيمهد طريقه إلى بعبدا، وانفتح على “تيار المستقبل” بعد سنوات من الاصطفاف في حلف “ماروني – شيعي”، وحظي بترشيح عدو حليفه الألد: سعد الحريري.
الجنرال المعروف بعناده وانفعاليته، أخلص لحلفائه، الذي أخلصوا لهم بدورهم، وتحديداً حزب الله، بيد أنه في المقابل، نجح في تكتيل جبهة صلبة من الخصوم، إذ بات الخلاف والاتفاق على “ولايته الرئاسية” سبباً في إعادة رسم وترتيب خريطة التحالفات والمحاور في لبنان، فلا 14 آذار (وتيار المستقبل من ضمنها) بقي على حاله، ولا 8 آذار ستظل على حالها، وسيكون مدهشاً أن نرى في جلسة انتخابه، أركاناً من 8 آذار (نبيه بري وسليمان فرنجية) يصوتون ضده إلى جانب رموز من تيار المستقبل (السنيورة ومكاري وفتفت) وحزب الكتائب ومسيحيي 14 آذار، فيما سيصوت إلى جانبه، جعجع والحريري وحسن نصرالله … يبدو أنه مكتوب على الرجل أن يسطر الصفحة الخيرة في إرثه السياسي، بالطريقة نفسها التي سطر فيها أول صفحات حياته السياسية كرئيس للحكومة العسكرية، كرجل إشكالي، مثير للجدل والخلاف، لا يُبقي مساحة “رمادية” للأطراف: فإما الالتفات من حوله، أو الاصطفاف في مواجهته.